الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ كُلَّ شَيۡءٖ قُبُلٗا مَّا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَجۡهَلُونَ} (111)

قوله تعالى : { قُبُلاً } : قرأ نافع وابن عامر " قِبَلاً " هنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء ، والكوفيون هنا وفي الكهف بضمها ، وأبو عمرو وابن كثير بضمها هنا وكسر القاف وفتح الباء في الكهف ، وقرأ الحسن البصري وأبو حَيْوة وأبو رجاء بالضم والسكون . وقرأ أُبَيّ والأعمش " قبيلاً " بياء مثناة من تحت بعد باء موحدة مكسورة . وقرأ طلحة بن مصرف " قَبْلا " بفتح القاف وسكون الباء .

فأمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها وجهان ، أحدهما : أنها بمعنى مُقَابلة أي : معايَنَةً ومُشَاهَدَةً ، وانتصابه على هذا على الحال ، قاله أبو عبيدة والفراء والزجاج ، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة يقال : " لَقِيته قِبَلاً " أي عِياناً . وقال ابن الأنباري : " قال أبو ذر : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أنبيَّاً كان آدم ؟ فقال : نعم كان نبياً ، كلَّمه الله قِبَلاً " وبذلك فَسَّرها ابن عباس وقتادة وابن زيد ، ولم يَحْكِ الزمخشري غيره فهو مصدر في موضع الحال كما تقدَّم . والثاني : أنها بمعنى ناحية وجهه ، قاله المبرد وجماعة من أهل اللغة كأبي زيد ، وانتصابه حينئذٍ على الظرف كقولهم : لي قِبَلُ فلان دَيْنٌ ، وما قِبَلك حق . ويقال : لَقِيْتُ فلاناً قِبَلاً ومُقابلةً وقُبُلاً وقُبَلاً وقَبْلِيَّاً وقبيلاً ، كلُّه بمعنى واحد ، ذكر ذلك أبو زيد وأتبعه بكلام طويلٍ مفيد فَرَحِمَه الله تعالى وجزاه خيراً .

وأمَّا قراءة الباقين هنا ففيها أوجه أحدها : أن يكون " قُبُلاً " جمع قبيل بمعنى كفيل كرَغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب ونَصِيب ونُصُب . وانتصابه حالاً قال الفراء والزجاج : " جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفيلاً بصدق محمد عليه السلام " ، ويُقال : قَبَلْتُ الرجل أَقبَلُه قَبالة بفتح الباء في الماضي والقاف في المصدر أي : تكفَّلْت به والقبيل والكفيل والزعيم والأَذِين والضمين والحَمِيل بمعنى واحد ، وإنما سُمِّيت الكفالة قَبالة لأنها أوكد تَقَبُّل ، وباعتبار معنى الكَفالة سُمِّي العهدُ المكتوب قَبالة . وقال الفراء في سورة الأنعام : " قُبُلاً " جمع " قبيل " وهو الكفيل " . قال : " وإنما اخترت هنا أن يكون القُبُل في معنى الكفالة لقولهم { أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً } [ الإِسراء : 92 ] يَضْمَنُون ذلك . الثاني : أن يكون جمع قبيل بمعنى جماعةً جماعةً أو صنفاً صنفاً ، والمعنى : وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيء فَوْجاً فوجاً ونوعاً نوعاً من سائر المخلوقات .

الثالث : أن يكون " قُبْلاً " بمعنى قِبَلاً كالقراءة الأولى في أحد وجهيها وهو المواجهة أي : مواجهةً ومعاينةً ، ومنه " آتيك قُبُلاً لا دُبُراً " أي : آتيك من قِبَل وجهك ، وقال تعالى : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ يوسف : 26 ] وقُرِئ " لقُبُل عِدَّتِهِنَّ " أي : لاستقبالها . وقال الفراء : " وقد يكون قُبُلاً : من قِبَل وجوههم " .

وأمَّا الذي في الكهف فإنه يَصِحُّ فيه معنى المواجهة والمعاينة والجماعة صنفاً صنفاً ؛ لأن المراد بالعذاب الجنس وسيأتي له مزيد بيان .

و " قُبُلاً " نصب على الحال كما مَرَّ مِنْ " كلَّ " وإن كان نكرةً لعمومه وإضافته ، وتقدَّم أنه في أحد أوجهه يُنْصَبُ على الظرف عند المبرد . وأمَّا قراءة الحسن فمخفَّفةٌ من المضموم ، وقرأه أُبَيٌّ بالأصل وهو المفرد . وأمَّا قراءة طلحة فهو ظرفٌ مقطوعٌ عن الإِضافة معناه : أو يأتيَ بالله والملائكة قَبْلَه ، ولكن كان ينبغي أن يُبْنَى لأن الإِضافة مُرادة .

وقوله : { مَّا كَانُواْ } جواب " لو " وقد تقدَّم أنه إذا كان منفيَّاً امتنعَتِ اللام . وقال الحوفي : " التقدير لَمَا كانوا ، حُذِفَتْ اللام وهي مرادةٌ " ، وهذا ليس بجيد لأن الجوابَ المنفيَّ ب " ما " يَقِلُّ دخولُها بل لا يجوز عند بعضهم ، والمنفيُّ ب " لم " ممتنع البتة . وهذه اللام لام الجحود جارَّةٌ للمصدر المؤول من " أَنْ " والمنصوب بها ، وقد تقدَّم تحقيق هذا كلِّه بعَوْن الله تعالى .

قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } يجوز أن يكون متصلاً أي : ما كانوا ليؤمنوا في سائرِ الأحوال إلا في حال مشيئة الله أو في سائر الأزمان إلا في زمان مشيئته . وقيل : إنه استثناء من علة عامة أي : ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله تعالى . والثاني : أن يكون منقطعاً ، نقل ذلك الحوفي وأبو البقاء واستبعده الشيخ .