الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا لَّيُضِلُّونَ بِأَهۡوَآئِهِم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِينَ} (119)

قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ } : مبتدأ وخبر ، وقوله " أن لا تأكلوا " فيه قولان أحدهما : هو على حذف حرف الجر أي : أيُّ شيء استقر في منع الآكل ممَّا ذُكِرَ اسم الله عليه ، وهو قول أبي إسحاق الزجاج ، فلمَّا حُذِفَتْ " في " جرى القولان المشهوران ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه . والثاني : أنها في محل نصب على الحال والتقدير : وأيُّ شيءٍ لكم تاركين للأكل ، ويؤيد ذلك وقوعُ الحال الصريحة في مثل هذا التركيب كثيراً نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] إلا أن هذا مردود بوجهين أحدهما : أنَّ " أنْ " تُخَلِّص الفعلَ للاستقبال فكيف يقع ما بعدها حالاً ؟ والثاني : أنها مع ما بعدها مؤولة بالمصدر وهو أشبه بالمضمرات كما تقدم تحريره ، والحال إنما تكون نكرة . قال أبو البقاء : " إلا أن يُقَدَّر حَذْفُ مضاف فيجوز أي : " وما لكم ذوي أن لا تأكلوا " وفيه تكلف ، ومفعول " تأكلوا " محذوف بقيت صفته ، تقديره : شيئاً مما ذُكِرَ اسم الله ، ويجوز أن لا يُراد مفعول ، بل المراد وما لكم أن لا يقع منكم الأكل ، وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية أي : أن لا تبتدئوا بالأكل من المذكور عليه اسمُ الله ، وزُعِم أن " لا " مزيدةٌ ، وهذا فاسد إذ لا داعي لزيادتها .

قوله : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ببنائهما للمفعول ، ونافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل ، وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ببناء الأول للفاعل وبناء الثاني للمفعول ، ولم يأت عكس هذه . وقرأ عطية العوفي كقراءة الأخوين ، إلا أنه خَفَّف الصاد من " فصل " ، والقائم مقام الفاعل هو الموصول ، وعائده من قوله " حَرَّم عليكم " . والفاعلُ في قراءة مَنْ بنى للفاعل ضميرُ الله تعالى ، والجملة في محل نصب على الحال .

قوله : { إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ } فيه وجهان أحدهما : أنه استثناء منقطع ، قاله ابن عطية والحوفي . والثاني : أنه استثناء متصل قال أبو البقاء : " ما " في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى لأنه وبَّخهم بترك الأكل مما سُمِّي عليه ، وذلك يتضمن الإِباحة مطلقاً " . قلت : الأول أوضح والاتصال قلق المعنى . ثم قال : " وقوله وقد فصَّل لكم ما حَرَّم عليكم أي : في حال الاختيار وذلك/ حلال حالَ الاضطرار " .

قوله { لَّيُضِلُّونَ } قرأ الكوفيون بضم الياء ، وكذا التي في يونس [ الآية : 88 ] { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ } والباقون بالفتح ، وسيأتي لذلك نظائر في إبراهيم وغيرها ، و القراءتان واضحتان فإنه يقال : ضَلَّ في نفسه وأضلَّ غيره ، فالمفعول محذوف على قراءة الكوفيين ، وهي أبلغُ في الذمِّ فإنها تتضمَّن قُبْحَ فِعْلهم حيث ضلَّوا في أنفسهم وأَضَلُّوا غيرهم كقوله تعالى : { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 77 ] وقراءةُ الفتح لا تحوج إلى حذف فرجَّحها بعضهم بهذا ، وأيضاً فإنهم أجمعوا على الفتح في ص عند قوله { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [ الآية : 26 ] .

وقوله : { بِأَهْوَائِهِم } متعلق بيضلون ، والباء سببيَّة أي : بسبب اتِّباعهم أهواءهم وشهواتهم . وقوله " بغير علم " متعلق بمحذوف لأنه حال أي : يضلُّون مصاحبين للجهل أي : ملتبسين بغير علم .