الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ} (125)

وقوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ } : كقوله : { مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ }

[ الأنعام : 39 ] و " مَنْ " يجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء ، وأن تكون منصوبةً بمقدَّر بعدها على الاشتغال أي : مَنْ يوفق الله يُرِدْ أن يهديه ، و " أن يهديه " مفعول الإِرادة . والشرح : البسط والسَّعة قاله الليث ، وقال ابن قتيبة : " هو الفتحُ ومنه : شَرَحْتُ اللحم أي فتحته " وشرحَ الكلامَ بسطه وفتح مغلقه وهو استعارة في المعاني حقيقة في الأعيان . و " للإِسلام " أي : لقبوله .

وقوله : " يَجْعَلْ " يجوز أن تكون التصييريةَ وأن تكون الخَلْقية ، وأن تكون بمعنى سمَّى ، وهذا الثالث يفرُّ إليه المعتزلة كالفارسي وغيره من معتزلة النحاة ، لأن الله لا يُصَيِّر ولا يخلق أحداً كذا ، فعلى الأول يكون " ضيقاً " مفعولاً عند مَنْ شدَّد ياءه وهم العامَّة غيرَ ابنِ كثير وكذلك عند مَنْ خففها ساكنة ويكون فيه لغتان : التثقيل والتخفيف كميِّت ومَيْت وهيِّن وهين . وقيل : المخفف مصدر ضاق يضيق ضَِيقاً كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ } [ النحل : 27 ] يقال : ضاق يضيق ضَيقاً وضِيقاً بفتح الضاد وكسرها ، وبالكسر قرأ ابن كثير في النحل والنمل ، فعلى جَعْلِه مصدراً يجيء فيه الأوجه الثلاثة في المصدر الواقع وصفاً لجثة نحو : رجل عدل ، وهي حذف مضاف أو المبالغة أو وقوعه موقعَ اسم الفاعل أي : يجعل صدره ذا ضيق أو ضائقاً أو نفس الضيق مبالغةً ، والذي يظهر من قراءة ابن كثير أنه عنده اسمٌ صفةٌ مخفف من فَيْعِل وذلك أنه استغرب قراءته في مصدرِ هذا الفعلِ دونَ الفتح في سورة النحل والنمل ، فلو كان هذا عنده مصدراً لكان الظاهرُ في قراءته الكسرَ كالموضعين المشارِ إليهما ، وهذا من محاسنِ علم النحو والقراءات ، والخلافُ الجاري هنا جارٍ في الفرقان . وقال الكسائي :/ " الضَّيِّق بالتشديد في الأجرام ، وبالتخفيف في المعاني " .

ووزن ضيّق فَيْعلِ كميّت وسيّد عند جمهور النحويين ثم أدغم ، ويجوز تخفيفه كما تقدم تحريره . قال الفارسي : " والياء مثل الواو في الحذف وإن لم تعتلَّ بالقلب كما اعتلَّت الواو ، أُتْبِعَت الياءُ الواوَ في هذا كما أتبعت في قولهم " اتَّسر " من اليسر فجعلت بمنزلة اتَّعد " . وقال ابن الأنباري : " الذي يثقِّل الياء يقول وزنه من الفعل فَعِيل ، والأصل فيه ضَييق على مثال كريم ونبيل ، فجعلوا الياءَ الأولى ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها من حيث أعلُّوا ضاق يضيق ، ثم أسقطوا الألفَ لسكونِها وسكونِ ياء فَعِيل فأشفقوا مِن أن يلتبس فعيل ب " فَعْل ، فزادوا ياء على الياء يكمل بها بناء الحرف ويقع بها فرق بين فعيل وفَعْل . والذين خَفَّفُوا الياء قالوا : أُمِن اللبس لأنه قد عُرِف أصلُ هذا الحرف ، فالثقة بمعرفته مانعة من اللبس .

وقال البصريون : وزنه من الفعل فَيْعِل فأدغمت الياء في التي بعدها فشُدِّد ثم جاء التخفيف . قال : " وقد ردَّ الفراء وأصحابُه هذا على البصريين ، وقالوا : لا يُعرف في كلام العرب اسم على وزن فيعِل يَعْنُون بكسر العين إنما يُعرف فيعَل يعنون بفتحها نحو صيقَل وهيكل ، فمتى ادّعى مُدَّعٍ في اسمٍ معتلّ ما لا يُعرف في السالم كانت دعواه مردودةً " قلت : قد تقدَّم تحرير هذه الأقوال عند قوله :

{ أَوْ كَصَيِّبٍ } [ البقرة : 19 ] فليُراجَعْ ثَمة . وإذا قلنا إنه مخفف من المشدد فهل المحذوفُ الياءُ الأولى أو الثانية ؟ خلاف مرَّت له نظائره .

وإذا كانت " يَجْعَل " بمعنى يخلق فيكون " ضيقاً " حالاً ، وإن كانت بمعنى " سَمَّى " كانت مفعولاً ثانياً ، والكلام عليه بالنسبة إلى التشديد والتخفيف وتقدير المعاني كالكلام عليه أولاً .

وحَرَجاً وحَرِجاً بفتح الراء وكسرها : هو المتزايد في الضيق فهو أخصُّ من الأول ، فكلُّ حَرَج ضيق من غير عكسٍ ، وعلى هذا فالمفتوح والمكسور بمعنى واحد يقال : رجل حَرِج وحَرَج قال الشاعر :

لا حَرِجُ الصدرِ ولا عنيفُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال الفراء : " هو في كسره ونصبه بمنزلة الوحَد والوِحد والفرَد والفرِد والدَّنَف والدَّنِف " . وفرَّق الزجاج والفارسي بينهما فقالا : المفتوح مصدر والمكسور اسم فاعل . قال الزجاج : " الحَرَج أضيق الضيق ، فَمَنْ قال : رجل حرَج يعني بالفتح فمعناه ذو حَرَج في صدره ، ومن قال حرِج يعني بالكسر جعله فاعلاً وكذلك دنَف ودنِف " . وقال الفارسي : " مَنْ فتح الراء كان وصفاً بالمصدر نحو : فَمَن وحَرَىً ودنَف ونحو ذلك من المصادر التي يوصف بها ، ولا تكون كبطل لأن اسم الفاعل في الأمر العام إنما يجيء على فَعِل ، ومن قرأ حَرِجاً - يعني بكسر الراء - فهو مثل دنِف وفَرِق بكسر العين " . وقيل : الحَرَج بالفتح جمع حَرَجَة كقصبة وقصب ، والمكسور صفة كدَنِف ، وأصل المادة من التشابك وشدة التضايق فإنَّ الحَرَجة غَيْضة من شجر السَّلَم ملتفَّةٌ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يصل إليها قال العجاج :

عايَنَ حَيَّاً كالحِراج نَعَمُهْ

الحِراج : جمع حِرْج ، وحِرْج جمع حَرَجة . ومن غريب ما يُحكى أن ابن عباس قرأ هذه الآية فقال : هل هنا أحد من بني بكر ؟ فقال رجل : نعم . قال : ما الحَرَجة فيكم ؟ قال : الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه . فقال ابن عباس : فهكذا قلب الكافر ، هذه رواية عبيد بن عمير . وقد حكى أبو الصلت الثقفي هذه الحكاية بأطولَ من هذا عن عمر بن الخطاب فقال : " قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فقال : ابغوني رجلاً من بني كنانة واجعلوه راعياً ، فأتَوْه به فقال له عمر : يا فتى ما الحَرَجَةُ فيكم ؟ قال : الحَرَجَةُ فينا الشجرة تُحْدِق بها الأشجار فلا تصل إليها/ راعيةٌ ولا وحشية .

فقال عمر : " وكذلك قلبُ الكافر لا يصل إليه شيء من الخير " .

وبعضهم يحكي هذه الحكاية عن عمر رضي الله عنه كالمنتصر لمن قرأ بالكسر قال : " قرأها بعض أصحاب عُمَر له بالكسر فقال : ابغوني رجلاً من كنانة راعياً وليكن من بني مُدْلج فَأَتَوْه به فقال : يا فتى ما الحَرَجَةُ تكون عندكم ؟ فقال : شجرةٌ تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعيةٌ ولا وحشية فقال : كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيٌ من الخير . قال الشيخ : " وهذا تنبيه والله أعلم على اشتقاق الفعل من اسم العين كاستنوق واستحجر " قلت : ليس هذا من باب التنوق واستحجر في شيء ، لأن هذا معنى مستقل ومادة مستقلة متصرفة نحو : حَرِجَ يَحْرَج فهو حَرِج وحارج بخلاف تِيْكَ الألفاظ فإن معناها يُضطر فيه إلى الأخذ من الأسماء الجامدة ، فإنَّ معنى قولك استنوق الجمل أي : صار كالناقة ، واستحجر الطين أي : صار كالحجر ، وليس لنا مادةٌ متصرفة إلى صيغ الأفعال من لفظ الحجر والناقة ، وأنت إذا قلت : حَرِج صدرُه ليس بك ضرورة أن تقول : صار كالحَرَجة ، بل معناه تزايدَ ضيقُه ، وأمَّا تشبيهُ عمر بن الخطاب فلإِبرازه المعاني في قوالبِ الأعيان مبالغةً في البيان .

وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم " حَرِجاً " بكسر الراء ، والباقون بتفحها ، وقد عُرِفا . فأمَّا على قراءة الفتح فإن كان مصدراً جاءت فيه الأوجه الثلاثة المتقدمة في نظائره ، وإن جُعِلَ صفة فلا تأويل .

ونصبه على القراءتين : إمَّا على كونه نعتاً لضيقاً ، وإمَّا على كونِهِ مفعولاً به تعدَّد ، وذلك أن الأفعالَ النواسخَ إذا دخلت على مبتدأ وخبر كان الخبران على حالهما فكما يجوز تعدُّدُ الخبر مطلقاً أو بتأويل في المبتدأ والخبر الصريحين كذلك في المنسوخين حين تقول : " زيدٌ كاتب شاعر فقيه " ثم تقول : ظننتُ زيداً كاتباً شاعراً فقيهاً ، فتقول : " زيداً " مفعول أول " كاتباً " مفعول ثان " شاعراً " مفعول ثالث " فقيهاً " مفعول رابع ، كما تقول : خبر ثان وثالث ورابع ، ولا يلزم من هذا أن يتعدَّى الفعل لثلاثة ولا أربعة لأن ذلك بالنسبة إلى تعدُّد الألفاظ ، فليس هذا كقولك في : أعلمْتُ زيداً عمراً فاضلاً ، إذ المفعولُ الثالثُ هناك ليس متكرراً لشيء واحد ، وإنما بَيَّنْتُ هذا لأنَّ بعض الناس وَهِمَ في فهمه ، وقد ظهر لك ممَّا تَقَدَّم أنَّ قوله " ضيقاً حَرَجاً " ليس فيه تكرار . وقال مكي : " ومعنى حَرِج يعني بالكسر كمعنى ضيق كرِّر لاختلاف لفظه للتأكيد " قلت : إنما يكون للتأكيد حيث لم يظهر بينها فارق فتقول : كُرِّر لاختلاف اللفظ كقوله :

{ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] [ وقوله ] :

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** وألفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا

[ وقوله ] :

. . . . . . . . . . . . . . . *** وهندٌ أتى مِنْ دونها النَّأْيُ والبُعْدُ

وأما هنا فقد تقدَّم الفرق بينهما بالعموم والخصوص أو غير ذلك . وقال أبو البقاء : " وقيل هو جمع " حَرَجَة " مثل قَصَبَة وقَصَب والهاءُ فيه للمبالغة " ولا أدري كيف تَوَهَّم كونَ هذه الهاءِ الدالَّةِ على الوَحْدة في مفرد أسماء الأجناس كثمرة وبُرّة ونَبِقة للمبالغة كهي في راوية ونَسَّابة وفَرُوْقة ؟

وقوله : " كأنما " " ما " هذه مهيِّئة لدخول كان على الجمل الفعلية كهي في

{ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ } [ آل عمران : 185 ] .

وقرأ ابن كثير : " يَصْعَد " ساكنَ الصاد مخفَّف العين ، مضارع صَعِد أي ارتفع ، وأبو بكر عن عاصم يصَّاعد بتشديد الصاد بعدها ألف ، وأصلها يتصاعد أي : يتعاطى الصُّعود ويتكلَّفه ، فأدغم التاء في الصاد تخفيفاً ، والباقون يَصَّعَّد بتشديد الصاد والعين دون ألفٍ بينهما ، مِنْ يصَّعَّد أي يفعل الصعود ويُكَلَّفه والأصل : يتصعَّد فأدغم كما في قراءة شعبة ، وهذه الجملة التشبيهية يحتمل أن تكون مستأنفة شبَّه فيها حال مَنْ جعل الله صدره ضيقاً حَرَجاً بأنه بمنزلة مَنْ يطلب الصُّعود إلى السماء المُظِلة ، أو إلى مكان مرتفع وَعْرٍ كالعقبة الكَؤُود .

وجَوَّزوا فيها وجهين آخرين أحدهما : أن يكون مفعولاً آخر تعدَّد كما تَعَدَّد ما قبلها ، والثاني : أن يكون حالاً ، وفي صاحبها احتمالان ، أحدهما : هو الضميرُ المستكنُّ في " ضيِّقا " ، والثاني : هو الضمير في " حَرَجا " و " في السماء " متعلِّق بما قبله .

قوله : { كَذلِكَ يَجْعَلُ } هو كنظائِرِه ، وقدَّره الزجاج : مثل ما قَصَصْنا عليك يَجْعل ، أي : فيكون مبتدأ وخبراً أو نعت مصدر محذوف ، فلك أن ترفعَ " مثل " وأن تنصِبَها بالاعتبارين عنده ، والأحسن أن يُقَدَّر لها مصدرٌ مناسب كما قدَّره الناس وهو : مثل ذلك الجَعْل أي جَعْلِ الصدرِ ضيقاً حرجاً يجعل اللهُ الرجس ، كذا قدَّره مكي وغيره ، و " يجعل " يُحتمل أن تكونَ بمعنى " ألقى " وهو الظاهر فتتعدَّى لواحد بنفسها وللآخر بحرف جر ، ولذلك تَعدَّتْ هنا ب على ، و المعنى : كذلك يلقي اللهُ العذاب على الذين لا يؤمنون ، ويجوز أن يكون بمعنى صَيَّر أي : يُصَيِّره مُسْتعلياً عليهم محيطاً بهم ، والتقدير الصناعي : مستقراً عليهم .