الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتۡهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةٗ قَالُواْ يَٰحَسۡرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطۡنَا فِيهَا وَهُمۡ يَحۡمِلُونَ أَوۡزَارَهُمۡ عَلَىٰ ظُهُورِهِمۡۚ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} (31)

قوله تعالى : { بَغْتَةً } : في نصبها أربعة أوجه ، أحدها : أنها مصدرٌ في موضع الحال من فاعل " جاءَتْهم " أي : مباغتةً ، وإمَّا من مفعوله أي : مَبْغوتين . الثاني : أنها مصدرٌ على غير الصدر ؛ لأنَّ معنى " جاءتهم " بَغَتَتْهُمْ بغتة ، فهو كقولهم : " أتيته رَكْضاً " . الثالث : أنَّها منصوبةٌ بفعلٍ محذوف من لفظها ، أي : تَبْغَتُهم بَغْتة . الرابع : بفعلٍ من غير لفظها ، أي : أتتهم بغتة .

والبَغْتُ والبَغْتةُ مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتدادٍ به ولا جَعْلِ بالٍ منه حتى لو استشعر الإِنسانُ به ثم جاءه بسرعةٍ لا يُقال فيه بَغْتَة ، ولذلك قال الشاعر :

إذا بَغَتَتْ أشياءُ قد كان قبلها *** قديماً فلا تَعْتَدَّها بَغَتَاتِ

والألف واللام في " الساعة " للغلبة كالنجم والثريا ، لأنها غلبت على يوم القيامة ، وسمِّيَتِ القيامةُ ساعةً لسرعة الحساب فيها على الباري تعالى . وقوله " قالوا " هو جواب " إذا " .

قوله : { يحَسْرَتَنَا } هذا مجازٌ ، لأنَّ الحسرةَ لا يتأتَّى منها الإِقبال ، وإنَّما المعنى على المبالغة في شدة التحرُّ ، وكأنهم نادوا التحسُّر ، وقالوا : إن كان لكِ وقتٌ فهذا أوان حضورك . ومثله : " يا ويلتا " ، والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء .

قوله : { عَلَى مَا فَرَّطْنَا } متعلقٌ بالحَسْرة ، و " ما " مصدريةٌ ، أي : على تفريطنا . والضمير في " فيها " يجوز أن يعود على الساعة ، ولا بد من مضاف أي : في شأنها والإِيمان بها ، وأن يعود على الصفقة المتضمَّنة في قوله : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ } قاله الحسن ، أو يعود على الحياة الدنيا وإن لم [ يَجْرِ ] لها ذِكْرٌ لكونها مَعْلومةً ، قاله الزمخشري . وقيل : يعود على مازلهم في الجنة إذا رأَوْها . وهو بعيدٌ .

والتفريطُ : التقصيرُ في الشيء مع القدرة على فعله . وقال أبو عبيد : " هو التضييع " وقال ابن بحر : " هو السَّبْق ، منه الفارط أي السابق للقوم ، فمعنى فرَّط بالتشديد خلَّى السبق لغيره ، فالتضعيف فيه للسَّلْب كجلَّدْتُ البعير ومنه { فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً } [ الإِسراء : 79 ] .

قوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ } الواو للحال ، وصاحب الحال الواو في " قالوا " أي : قالوا : يا حَسْرَتَنا في حالةِ حَمْلِهم أوزارَهم . وصُدِّرت هذه الجملة بضمير مبتدأ ليكون ذِكْرُه مرتين فهو أبلغُ ، والحَمْلُ هنا قيل : مجازٌ عن مقاساتهم العذابَ الذي سببُّه الأوزارُ ، وقيل : هو حقيقةٌ . وفي الحديث : " إنه يُمَثَّل له عملُه بصورةٍ قبيحةٍ مُنْتِنَةِ الريح فيحملها " وخُصَّ الظهرُ لأنه يُطِيق من الحمل ما لا يُطِيقه غيره من الأعضاء كالرأس والكاهل ، وهذا كما تقدَّم في { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 7 ] ؛ لأن اليدَ أقوى في الإِدراك اللمسي من غيرها .

الأوزار : جمع وِزْر كحِمْل وأَحْمال وعِدْل وأعدال .

والوِزْر في الأصل الثقل ، ومنه : وَزِرْتُهُ أي : حَمَّلْته شيئاً ثقيلاً ، ووزير المَلِك من هذا لأنه يتحمَّل أعباءَ ما قلَّده الملك من مؤونة رعيتَّه وحَشَمَتِه ، ومنه أوزار الحرب لسلاحها وآلاتها ، قال :

وأعدَدْتُ للحرب أوزارَها *** رماحاً طِوالاً وخيلاً ذُكروا

وقيل : الأصل في ذلك الوَزَر بفتح الواو الزاي ، وهو الملجأ الذي يُلْتجأ إليه من الجبل ، قال تعالى : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] ثم قيل للثقل وِزْرٌ تشبيهاً بالجبل ، ثم استُعير الوِزْرُ للذَّنبِ تشبيهاً به في ملاقاة المشقة منه ، والحاصل أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزانةِ والعِصْمة .

قوله : { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } " ساء " هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة ، أحدُها : أنها " ساء " المتصرفةُ المتعدِّية ، ووزنها حينئذ فَعَل فتح العين ، ومفعولُها حينئذ محذوف ، وفاعلها " ما " ، و " ما " تحتمل ثلاثة أوجه : أن تكونَ موصلةً اسمية أو حرفية أو نكرة موصوفة وهو بعيدٌ ، وعلى جَعْلِها اسميةً أو نكرة موصوفة تُقَدِّر لها عائداً ، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور . والتقدير : ألا ساءَهم الذي يَزِرُونه أو شيء يزرونه أو وِزْرُهم . وبدأ ابن عطية بهذا الوجه قال : " كما تقول : ساءني هذا الأمر ، والكلام خبر مجرد كقوله :

رَضِيْتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غيرَ طائلةٍ *** فساءَ هذا رِضَىً يا قيسَ عيلانا

قال الشيخ : " ولا يتعيَّن أن تكون " ما " في البيت خبراً مجرداً بل تحتمل الأوجهَ الثلالثة " انتهى وهو ظاهر .

الثاني : أن تكون للتعجُّبِ فتنتقل من فَعَل بفتح العين إلى فَعُل بضمها ، فتُعْطى حكمَ فعل التعجب : من عدم التصرُّفِ والخروج من الخبر المحض إلا الإِنشاء ، إن قلنا : إن التعجب إنشاءٌ وهو الصحيح ، والمعنى : ما أسوأ - أي أقبح- الذي يَزِرُونه أو شيئاً يَزِرُونه أو وِزْرُهم ، الثالث : أنها بمعنى بئس فتكون للمبالغةِ في الذم فتُعْطى أحكامَها أيضاً ، ويجري الخلاف في " ما " الواقعةِ بعدها حَسْبما ذكر في { بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ }

[ البقرة : 90 ] . وقد ظهر الفرقُ بين هذه الأوجه الثلاثة فإنها في الأول متعدية متصرفة والكلام معها خبرٌ محض ، وفي الأخيرين قاصرة جامدة إنشائية . والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْترط في فاعلها ما يشترط في فاعل بئس . وقال الشيخ : " والفرقُ بين هذا الوجهِ - يعني كونها بمعنى بئس - والوجه الذي قبله - يعني كونَها تعجبيَّةً - أنه لا يُشترط فيه ما يُشترط في فاعل " بئس " من الأحكام ولا هو جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبر ، وإنما هو منعقدٌ من فعل وفاعل " . انتهى .

وظاهرهُ لا يَظْهر إلا بتأويل وهو أن الذمَّ لا بد فيه من مخصوصٍ بالذم وهو مبتدأ ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقدَ من هذه الجملةِ متبدأٌ وخبر ، إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول : إنما يتأتَّى هذا على أحد الأعاريب في المخصوص ، وعلى تقدير التسليم فلا مَدْخَل للمخصوص بالذم في جملة الذم بالنسبة إلى كونها فعليةً فحينئذ لا يظهر فرقٌ بينهم وبين التعجبية في أنَّ كلاً منها منعقدة في فعلٍ وفاعل .