الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (33)

قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ } : " قد " هنا حرف تحقيق . وقال الزمخشري والتبريزي : " قد نعلم : بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ

قال الشيخ : " وهذا القول غير مشهور للنحاة ، وإن قال به بعضهم مستدلاً بقوله :

قد أَتْرُكُ القِرْن مُصْفرَّاً أناملُه *** كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفِرصادِ

وقول الآخر :أخي ثقةٍ لا تُتْلِفُ الخمرُ مالَه *** ولكنه قد يُهْلك المالَ نائلُه

والذي يَظْهر أن التكثيرَ لا يُفْهَمُ من " قد " إنما فُهم من سياق الكلام ؛ إذ التمدُّحُ بقتل قِرْن واحد غيرُ طائل ، وعلى تقدير ذلك هو متعذِّر في الآية ؛ لأنَّ علمه تعالى لا يقبل التكثير " . قلت : قد يُجاب عنه بأنَّ التكثير في متعلَّقات العلم لا في العلم ، ثم قال : " وقولُه بمعنى " ربما " التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهورُ أنَّ " رُبَّ " للتقليل لا للتكثير ، وزيادةُ " ما " عليها لا يُخْرجها عن ذلك بل هي مهيِّئة لدخولِها على الفعل ، و " ما " المهيِّئة لا تزيلُ الكلمة عن معناها الأصلي ، كما لا تزيل " لعلَّ " عن الترجِّي ولا " كأنَّ " عن التشبيه ولا " ليت " عن التمني . وقال ابن مالك " " قد " ك " ربما " في التقليل والصَّرف إلى معنى المضيّ ، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ } [ الصف : 5 ] وقوله :

وقد تُدْرِكُ الإِنسانَ رحمةُ ربِّه *** ولو كان تحت الأرض سبعين واديا / وقد تخلُو من التقليل وهي صارفةٌ لمعنى المضيِّ نحو قوله :

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } [ البقرة : 144 ] .

وقال مكي : " قد " هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه . و " نعلم " بمعنى عَلِمْنا ، وقد تقدَّم الكلام في هذا الحرف وأنها متردِّدةٌ بين الحرفيةِ والاسميةِ . وقال الشيخ هنا : " قد حرف توقع ، إذا دخلت على مستقبلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلم كقولك : " قد ينزل المطرُ شهرَ كذا " ، وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضيِّ كان التوقُّع عند السامع ، وأمَّا المتكلمُ فهو موجِبُ ما أخبر به ، وعَبَّر هنا بالمضارع إذا المرادُ الاتِّصافُ بالعلم واستمراره ، ولم يَلْحَظْ فيه الزمانَ كقولهم : " هو يعطي ويمنع " .

و { إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } سادٌّ مَسَدَّ المفعولين فإنها معلِّقة عن العمل ، وكُسِرت لدخول اللام في خبرها . وتقدَّم الكلامُ في " لَيَحْزُنك " وأنه قرئ بفتح الياء وضمِّها من حَزَنه وأَحْزنه في آل عمران . " والذي يقولون " فاعلٌ وعائده محذوف ، أي : الذي يقولونه مِنْ نسبتهم إلى ما لا يليق به ، والضمير في " إنه " ضمير الشأن والحديث ، والجملة بعده خبر مفسِّرةً له ، ولا يجوزُ في هذا المضارعِ أن يُقَدَّر باسم فاعلٍ رافعٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّرُ في قولك : " إنَّ زيداً يقوم أبوه " لئلا يلزمَ تفسير ضمير الشأن بمفرد ، وقد تقدَّم أنَّه ممنوعٌ عند البصريين .

قوله : { لاَ يُكَذِّبُونَكَ } قرأ نافع والكسائي : { لا يَكْذِبُونك } مخففاً من أَكْذَبَ ، والباقون مثقَّلاً مِنْ كذَّب ، وهي قراءة علي وابن عباس . واختلف الناس في ذلك ، فقيل : هما بمعنى واحد مثل : أَكْثَر وكثَّر ونَزَّل وأنزل ، وقيل : بينهما فرق ، قال الكسائي : العرب تقول " كذَّبْتُ الرجلَ " بالتشديد ، إذا نَسَبْتَ الكذبَ إليه ، و " أَكْذَبْتُه " إذا نسبْتَ الكذبَ إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه ، ويقولون أيضاً : أَكْذَبْتُ الرجل إذا وجدْتُه كاذباً كأَحْمَدْتُه إذا وجدته محموداً ، فمعنى " لا يُكْذِبونك " مخفَّفاً : لا يَنْسِبون الكذبَ إليك ولا يجدونك كاذباً ، وهو واضحٌ .

وأمَّا التشديدُ فيكونُ خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه . فإن قيل : هذا مُحالٌ ؛ لأنَّ بعضهم قد وُجِد منه تكذيبٌ ضرورةً . فالجاب أن هذا وإن كان منسوباً إلى جمعيهم ، أعني عدمَ التكذيب فهو إنما يراد به بعضُهم مجازاً كقوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 16 ] وإن كان فيهم مَنْ لم يُكَذِّبْه فهو عامٌّ يُرادُ به الخاص . والثاني : أنه نفى التكذيب لانتقاء ما يترتَّب عليه من المَضَارِّ ، فكأنه قيل : فإنهم لا يُكَذِّبونك تكذيباً يُبالى به ويَضُرَّك لأنك لست بكاذب ، فتكذيبُهم كلا تكذيب ، فهو مِنْ نفي السبب لانتفاءِ مُسَبِّبه . وقال الزمخشري : " والمعنى أنَّ تَكْذيبَك أمرٌ راجع إلى الله لأنك رسولُه المصدَّق ، فهم لا يكذِّبونك في الحقيقة ، إنما يكذبون الله بجحود آياته فانْتَهِ عن حزنك كقول السيدِ لغلامه : - وقد أهانه بعض الناس - لن يُهِينُوك وإنما أهانوني ، وعلى هذه الطريقة : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] .

قوله : { بِآيَاتِ اللَّهِ } يجوز في هذا الجارِّ وجهان ، أحدهما : أنه متعلِّقٌ ب " يَجْحَدون " ، وهو الظاهرُ الذي لاينبغي أن يُعْدَلَ عنه وجَوَّز أبو البقاء أن يتعلَّق بالظالمين ، قال : " كقوله تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الإِسراء : 59 ] وهذا الذي قاله ليس بجيد ، لأن الباءَ هناك سببيةٌ ، أي : ظلموا بسببها ، والباء هنا معناها التعدية ، وهنا شيءٌ يتعلق به تعلُّقاً واضحاً ، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه . وفي هذه الآية إقامةُ الظاهرِ مُقامَ المضمر ، إذ الأصل : ولكنهم يَجْحدون بآيات الله ، ولكنه نَبَّه على أن الظلمَ هو الحاملُ لهم على الجُحود .

والجُحود والجَحْد نَفْيُ ما في القلب ثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه . وقيل : الجَحْد : إنكار المعرفة فليس مرادفاً للنفي من كل وجه .