الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَعِبٞ وَلَهۡوٞۖ وَلَلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (32)

قوله تعالى : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ } : يجوز أن يَكون من المبالغة جَعْلُ الحياة نفس اللعب واللهو كقولها :

. . . . . . . . . . . . . . *** فإنما هي إقبالٌ وإدبار

وهذا أحسن ، ويجوز أن يكون في الكلام حذف أي : وما أعمال الحياة ، وقال الحسن البصري : " وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب " فقدَّر شيئين محذوفين .

واللَّهْو : صَرْفُ النفس عن الجدِّ إلى الهزل . ومنه لو يلهو . وأمَّا لَهِي عن كذا فمعناه صَرَفَ نفسَه ، والمادةُ واحدةٌ انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها نحو : شَقِي ورضي . وقال المهدوي : " الذي معناه الصرفُ لامُه ياء بدليل قولهم لَهْيان ، ولام الأول واو " . قال الشيخ : " وليس بشيء ؛ لأن الواو في التثنية انقلبت ياءً فليس أصلها الياء ، ألا ترى إلى تثنية شَجٍ : شَجِيان وهو مِن الشَّجْوِ " انتهى . يعني أنهم يقولون في اسم فاعله : لَهٍ كشجٍ ، والتثنيةُ مبنيَّةٌ على المفرد ، وقد أنقلبت في المفرد فَلْتنقلب في المثنى [ ولنا فيه بحثٌ أَوْدَعْناه في " التفسير الكبير " ولله الحمد ] وبهذا يَظْهَرُ فسادُ رَدِّ المهدوي على الرماني ، فإنَّ الرماني قال : " اللعب عَمَلٌ يُشْغِلُ النفسَ عما تنتفعُ به ، واللَّهْوُ صَرْفُ النفسِ من الجدِّ إلى الهزل ، يقال : لَهَيْتُ عنه أي صرفْتُ نفسي عنه " قال المهدوي : " وفيه ضعفٌ وبُعْدٌ ؛ لأنَّ الذي فيه معنى الصرف لامه ياء ، بدليل قولهم في التثنية ليهان " انتهى . وقد تقدَّم فسادُ هذا الردِّ وقال الراغب : " اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإِنسانَ عما يَعْنيه ويَهُمُّه ، يقال : لَهَوْتُ بكذا أو لهيت عن كذا اشتغلْتُ عنه بلَهْوٍ " وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حَمَلَ المهدوي على التفرقة بين المادتين .

قوله : { وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ } قرأ الجمهور بلامَيْن ، الأُوْلى لام الابتداء ، والثانية للتعريفِ ، وقرؤوا " الآخرةُ " رفعاً على أنها صفةٌ للدار ، و " خيرٌ " خبرُها . وقرأ ابن عامر : " ولَدارُ " بلامٍ واحدة هي لامُ الابتداء ، و " الآخرةِ " جرٌّ بالإِضافة . وفي هذه القراءة تأويلان أحدُهما قولُ البصريين وهو انه من باب حَذْف الموصوف وإقامةِ الصفةِ مُقامه ، والتقدير : ولَدارُ الساعةِ الآخرة ، أو لَدار الحياة الآخرة ، يدلُّ عليه " وما الحياة الدنيا " ومثله قولهم : " حبة الحمقاء ومسجد الجامع وصلاة الأولى ومكان الغربي " التقدير : حبة البقلة الحمقاء ، ومسجد المكان الجامع ، وصلاة الساعة الأولى ، ومكان الجانب الغربي . وحَسَّن ذلك أيضاً في الآية كونُ هذه الصفةِ جَرَتْ مَجْرى الجوامد في إيلائِها العواملَ كثيراً ، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّم فيه إضافةُ الموصوفِ إلى صفته ، وإنما احتاجوا إلى ذلك لِئلاً يَلْزَمَ إضافةُ الشيء إلى نفسه وهو ممتنع ؛ لأن الإِضافة : إمَّا للتعريف أو للتخصيص ، والشيء لا يُعْرِّف نفسه ولا يخصِّصُها .

والثاني : وهو قول الكوفيين - أنه إذا اختلف لفظ الموصوف وصفته جازت إضافته إليها ، وأوردوا ما قدَّمْته من الأمثلة قال الفراء : " هي إضافةُ الشيء إلى نفسِه كقولك : بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين ، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين " . وقراءةُ ابن عامر موافقةٌ لمصحفه ؛ فإنها رُسِمَتْ في مصاحف الشاميين بلامٍ واحدة ، واختارها بعضُهم لموافقتها لما أُجْمِع عليه في يوسف : { وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } [ يوسف : 109 ] ، وفي مصاحف الناسِ بلامَيْنِ .

و " خيرٌ " يجوز أن يكون للتفضيل ، وحُذِف المفضَّلُ عليه للعلم به أي : خيرٌ من الحياة الدنيا ، ويجوز أن يكونَ لمجرَّدِ الوَصْف بالخَيْرية كقوله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] . و { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } متعلِّقٌ بمحذوف ؛ لأنه صفةٌ ل " خير " والذي ينبغي - أو يتعيَّن- أن تكونَ اللامُ للبيان ، أي : أعني للذين ، وكذا كلُّ ما جاء مِنْ نحوه ، نحو : { خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى } [ الضحى : 4 ] .

قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } قد تقدَّم الكلامُ في مثل هذه الهمزةِ الداخلةِ على الفاء وأختِها الواوِ وثم وقرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم : { تَعْقِلُون } خطاباً لمن كان بحضرته عليه السلام وفي زمانه . والباقون بياء الغيبة رَدَّاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة ، وحُذِفَ مفعول " تَعْقِلون " للعلمِ به ، أي : فلا تَعْقلون أنَّ الأمرَ كما ذكر فتزهَّدوا في الدنيا ، أو أنها خير من الدنيا .