{ ولن يتمنوه أبداً بما قدّمت أيديهم } : هذا من المعجزات ، لأنه إخبار بالغيب ، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } وظاهره أن من ادّعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب في قوله : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة } ، لا يمكن أن يتمنى الموت أبداً ، ولذلك كان حرف النفي هنا لن الذي قد ادّعى فيه أنه يقتضي النفي على التأبيد ، فيكون قوله : أبداً ، على زعم من ادعى ذلك للتوكيد .
وأما من ادعى أنه بمعنى لا ، فيكون أبداً إذ ذاك مفيداً لاستغراق الأزمان .
ويعني بالأبد هنا : ما يستقبل من زمان أعمارهم .
وفي المنتخب ما نصه : وإنما قال هنا : { ولن يتمنوه } ، وفي الجمعة { ولا يتمنونه } لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ، لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، ولن أبلغ في النفي من لا ، فجعلها النفي الأعظم .
قال المهدوي في ( كتاب التحصيل ) من تأليفه : وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتفعت بوفاته صلى الله عليه وسلم .
ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث : دلالة صدقي ، أن أحرّك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرّك يده ، فيفعل ذلك ، فيكون دليلاً على صدقه ، ولا يبطل دلالته أن حركوا أيديهم بعد ذلك .
انتهى كلامه ، وقد قاله غيره من المفسرين .
قال ابن عطية : والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمني الموت ، إنما كانت أياماً كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، انتهى كلامه .
وكلا القولين ، أعني قول المهدوي وابن عطية ، مخالف لظاهر القرآن ، لأن أبدأ ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم ، كما بيناه .
وهل امتناعهم من تمني الموت ، كان لعلمهم أن كل نبي عرض على قومه أمراً وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيباً له ، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة ؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يقول على الله إلا الحق ؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك ، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة ؟ أقوال ثلاثة .
والظاهر أن ذلك معلل { بما قدمت أيديهم } .
والذي قدمته أيديهم : تكذيبهم الأنبياء ، وقتلهم إياهم ، وقولهم : { أرنا الله جهرة } ، وقولهم : { اجعل لنا إلهاً } وقولهم : { فاذهب أنت وربك } واعتداؤهم في السبت ، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم .
وهذا التمني الذي طلب منهم ، ونفي عنهم ، لم يقع أصلاً منهم ، إذ لو وقع لنقل ، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله .
وقد تقدّمت الأقوال في تفسير التمني ، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي ، لأنه لا يطلع عليه ، فلا يتحدى به ، وإنما عنى به القول اللساني كقولك : ليت الأمر يكون .
ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك : تمني ؟ وتسمى ليت كلمة تمنّ ، ولم ينقل أيضاً أنهم قالوا : تمنينا ذلك بقلوبنا ، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم ، كونهم لا يصدّقون في ذلك ، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها ، من الافتراء على الله ، وتحريف كتابه ، وغير ذلك .
وقال الماتريدي ما ملخصه : أن المؤمن يقول : إن الجنة له ، ومع ذلك ليس بتمني الموت .
وأجاب : بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوّة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود ، لأن جميع المؤمنين ، غير الأنبياء ، لا يزول عنهم خوف الخاتمة .
والخاطىء منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه .
فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت .
ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه .
وذكروا في ما من قوله : { بما قدمت } ، أنها تكون مصدرية ، والظاهر أنها موصول ، والعائد محذوف ، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة .
ونسب التقديم لليد مجازاً ، والمعنى بما قدّموه ، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفاً في الخير والشر .
وكثر هذا الاستعمال في القرآن : { ذلك بما قدّمت يداك } { بما قدّمت أيديكم } { فبما كسبت أيديكم } وقيل : المراد اليد حقيقة هنا ، والذي قدّمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك بكتابة أيديهم .
{ والله عليم بالظالمين } : هذه جملة خبرية ، ومعناها : التهديد والوعيد ، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم .
فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد .
وقيل : معناه مجازيهم على ظلمهم ، فكنى بالعلم عن الجزاء ، وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية ، والألف واللام في الظالمين للعهد ، فتختص باليهود الذين تقدّم ذكرهم ، أو للجنس ، فتعم كل ظالم .
وإنما ذكر الظالمين ، لأن الظلم هو تجاوز ما حدّ الله ، ولا شيء أبلغ في التعدّي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها ، وانفراده بذلك دون الناس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.