البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَن يَتَمَنَّوۡهُ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (95)

{ ولن يتمنوه أبداً بما قدّمت أيديهم } : هذا من المعجزات ، لأنه إخبار بالغيب ، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } وظاهره أن من ادّعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب في قوله : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة } ، لا يمكن أن يتمنى الموت أبداً ، ولذلك كان حرف النفي هنا لن الذي قد ادّعى فيه أنه يقتضي النفي على التأبيد ، فيكون قوله : أبداً ، على زعم من ادعى ذلك للتوكيد .

وأما من ادعى أنه بمعنى لا ، فيكون أبداً إذ ذاك مفيداً لاستغراق الأزمان .

ويعني بالأبد هنا : ما يستقبل من زمان أعمارهم .

وفي المنتخب ما نصه : وإنما قال هنا : { ولن يتمنوه } ، وفي الجمعة { ولا يتمنونه } لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ، لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، ولن أبلغ في النفي من لا ، فجعلها النفي الأعظم .

انتهى كلامه .

قال المهدوي في ( كتاب التحصيل ) من تأليفه : وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتفعت بوفاته صلى الله عليه وسلم .

ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث : دلالة صدقي ، أن أحرّك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرّك يده ، فيفعل ذلك ، فيكون دليلاً على صدقه ، ولا يبطل دلالته أن حركوا أيديهم بعد ذلك .

انتهى كلامه ، وقد قاله غيره من المفسرين .

قال ابن عطية : والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمني الموت ، إنما كانت أياماً كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، انتهى كلامه .

وكلا القولين ، أعني قول المهدوي وابن عطية ، مخالف لظاهر القرآن ، لأن أبدأ ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم ، كما بيناه .

وهل امتناعهم من تمني الموت ، كان لعلمهم أن كل نبي عرض على قومه أمراً وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيباً له ، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة ؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يقول على الله إلا الحق ؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك ، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة ؟ أقوال ثلاثة .

والظاهر أن ذلك معلل { بما قدمت أيديهم } .

والذي قدمته أيديهم : تكذيبهم الأنبياء ، وقتلهم إياهم ، وقولهم : { أرنا الله جهرة } ، وقولهم : { اجعل لنا إلهاً } وقولهم : { فاذهب أنت وربك } واعتداؤهم في السبت ، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم .

وهذا التمني الذي طلب منهم ، ونفي عنهم ، لم يقع أصلاً منهم ، إذ لو وقع لنقل ، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله .

وقد تقدّمت الأقوال في تفسير التمني ، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي ، لأنه لا يطلع عليه ، فلا يتحدى به ، وإنما عنى به القول اللساني كقولك : ليت الأمر يكون .

ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك : تمني ؟ وتسمى ليت كلمة تمنّ ، ولم ينقل أيضاً أنهم قالوا : تمنينا ذلك بقلوبنا ، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم ، كونهم لا يصدّقون في ذلك ، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها ، من الافتراء على الله ، وتحريف كتابه ، وغير ذلك .

وقال الماتريدي ما ملخصه : أن المؤمن يقول : إن الجنة له ، ومع ذلك ليس بتمني الموت .

وأجاب : بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوّة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود ، لأن جميع المؤمنين ، غير الأنبياء ، لا يزول عنهم خوف الخاتمة .

والخاطىء منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه .

فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت .

ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه .

وذكروا في ما من قوله : { بما قدمت } ، أنها تكون مصدرية ، والظاهر أنها موصول ، والعائد محذوف ، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة .

ونسب التقديم لليد مجازاً ، والمعنى بما قدّموه ، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفاً في الخير والشر .

وكثر هذا الاستعمال في القرآن : { ذلك بما قدّمت يداك } { بما قدّمت أيديكم } { فبما كسبت أيديكم } وقيل : المراد اليد حقيقة هنا ، والذي قدّمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك بكتابة أيديهم .

{ والله عليم بالظالمين } : هذه جملة خبرية ، ومعناها : التهديد والوعيد ، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم .

فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد .

وقيل : معناه مجازيهم على ظلمهم ، فكنى بالعلم عن الجزاء ، وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية ، والألف واللام في الظالمين للعهد ، فتختص باليهود الذين تقدّم ذكرهم ، أو للجنس ، فتعم كل ظالم .

وإنما ذكر الظالمين ، لأن الظلم هو تجاوز ما حدّ الله ، ولا شيء أبلغ في التعدّي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها ، وانفراده بذلك دون الناس .

/خ96