تلا يتلو : تبع . وتلا القرآن : قرأه وتلا عليه كذب ، قاله أبو مسلم . وقال أيضاً : تلا عنه صدف ، فإذا لم يذكر الصلتين احتمل الأمرين .
سليمان : اسم أعجمي ، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة ، ونظيره من الأعجمية ، في أن في آخره ألفاً ونوناً : هامان ، وماهان ، وسامان ، وليس امتناعه من الصرف للعلمية ، وزيادة الألف والنون : كعثمان ، لأن زيادة الألف والنون موقوفة على الاشتقاق والتصريف .
والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية .
السحر : مصدر سحر يسحر سحراً ، ولا يوجد مصدر لفعل يفعل على وزن فعل إلا سحر وفعل ، قاله بعض أهل العلم .
قال الجوهري : كل ما لطف ودق فهو سحر .
يقال سحره : أبدى له أمراً يدق عليه ويخفى . انتهى .
ويقال سحره : خدعه ، ومنه قول امرىء القيس :
أرانا موضعين لأمر عيب *** ونسحر بالطعام وبالشراب
وسيأتي الكلام على مدلول السحر في الآية .
بابل : اسم أعجمي ، اسم أرض ، وسيأتي تعيينها .
هاروت وماروت : اسمان أعجميان ، وسيأتي الكلام على مدلولهما ، ويجمعان على : هواريت ومواريت ، ويقال : هوارته وموارته ، ومثل ذلك : طالوت وجالوت .
المرء : الرجل ، والأفصح فتح الميم مطلقاً ، وحكي الضم مطلقاً ، وحكي اتباع حركة الميم لحركة الإعراب فتقول : قام المرء : بضم الميم ، ورأيت المرء : بفتح الميم ، ومررت بالمرء : بكسر الميم ، ومؤنثه المرأة .
وقد جاء جمعه بالواو والنون ، قالوا : المرؤون .
الضرر والنفع معروفان ، ويقال : ضرّ يضر ، بضم الضاد ، وهو قياس المضعف المتعدي ومصدره : الضرّ والضرّ والضرر ، ويقال : ضار يضير ، قال :
يقول أناس لا يضيرك نابها *** بلى كل ما شف النفوس يضيرها
ورأيت في شرح الموجز ، الذي للرماني في النحو ، وهو تأليف رجل يقال له الأهوازي ، وليس بأبي على الأهوازي المقري ، أنه لا يقال منه اسم مفعول نحو منفوع ، والقياس النحوي يقتضيه .
الخلاق ، في اللغة : النصيب ، قاله الزجاج .
قال : لكنه أكثر ما يستعمل في الخير ، قال :
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم *** إلا السرابيل من قطر وأغلال
والخلاق : القدر ، قال الشاعر :
فما لك بيت لدى الشامخات *** وما لك في غالب من خلاق
{ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } ، معنى اتبعوا : أي اقتدوا به إماماً ، أو فضلوا ، لأن من اتبع شيئاً فضله ، أو قصد واو الضمير في واتبعوا لليهود ، فقال ابن زيد والسدّي : يعود على من كان في عهد سليمان .
وقال ابن عباس : في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والجملة من قوله : واتبعوا ، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله : ولما جاءهم إلى آخرها ، وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبع ، وهذا هو الظاهر ، لا أنها معطوفة على قوله : نبذه فريق منهم ، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول ، لأنهم كانوا متبعين ذلك قبل مجيء الرسول ، بخلاف نبذ كتاب الله ، فإنه مترتب على مجيء الرسول .
وتتلو : تتبع ، قاله ابن عباس ، أو تدعي ، أو تقرأ ، أو تحدث ، قاله عطاء ، أو تروي ، قاله يمان ، أو تعمل ، أو تكذب ، قاله أبو مسلم .
وما موصولة ، صلتها تتلو ، وهو مضارع في معنى الماضي ، أي ما تلت .
وقال الكوفيون : المعنى : ما كانت تتلو ، لا يريدون أن صلة ما محذوفة ، وهي كانت وتتلو ، في موضع الخبر ، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي ، كما أنك إذا قلت : كان زيد يقوم ، هو إخبار بقيام زيد ، وهو ماض لدلالة كان عليه .
والشياطين : ظاهره أنهم شياطين الجن ، لأنه إذا أطلق الشيطان ، تبادر الذهن إلى أنه من الجان .
وقرأ الحسن والضحاك : الشياطون ، بالرفع بالواو ، هو شاذ ، قاسه على قول العرب : بستان فلان حوله بساتون ، رواه الأصمعي .
قالوا : والصحيح أن هذا الجن فاحش .
وقال أبو البقاء : شبه فيه الياء قبل النون بياء جمع الصحيح ، وهو قريب من الغلط .
وقال السجاوندي : خطأه الخازربجي .
على ملك : متعلق بتتلو ، وتلا يتعدى بعلى إذا كان متعلقها يتلى عليه لقوله : يتلى على زيد القرآن ، وليس الملك هنا بهذا المعنى ، لأنه ليس شخصاً يتلى عليه ، فلذلك زعم بعض النحويين أن على تكون بمعنى في ، أي تتلو في ملك سليمان .
وقال أصحابنا : لا تكون على في معنى في ، بل هذا من التضمين في الفعل ضمن تتقول ، فعديت بعلى لأن تقول : تعدى بها ، قال تعالى : { ولو تقوّل علينا } ومعنى : { على ملك سليمان } ، أي شرعه ونبوّته وحاله .
وقيل : على عهده ، وفي زمانه ، وهو قريب .
وقيل : على كرسي سليمان بعد وفاته ، لأنه كان من آلات ملكه .
وفسروا ما يتلو الشياطين بالسحر ، قالوا : وهو الأشهر والأظهر على ما نقل في أسباب النزول ، من أن الشياطين كتبت السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف .
وقيل : الذي تلته هو الكذب الذي تضيفه إلى ما تسترق من أخبار السماء ، وأضافوا ذلك إلى سليمان تفخيماً لشأن ما يتلونه ، لأن الذي كان معه : من المعجزات ، وإظهار الخوارق ، وتسخير الجن والإِنس ، وتقريب المتباعدات ، وتأليف الخواطر ، وتكليم العجماوات ، كان أمراً عظيماً .
والساحر يدّعي أشياء من هذا النوع : من تسخير الجن ، وبلوغ الآمال ، والتأثير في الخواطر ، بل ويدّعي قلب الأعيان على ما يأتي في الكلام على السحر في قوله تعالى : { يعلمون الناس السحر } ، أو لأنهم كانوا يزعمون أن ملك سليمان إنما حصل بالسحر .
وقد ذكر المفسرون في كيفيات ما رتبوه من هذا الذي تلوه قصصاً كثيرة ، الله أعلم به ، ولم تتعرض الآية الكريمة ، ولا الحديث المسند الصحيح لشيء منه ، فلذلك لم نذكره .
{ وما كفر سليمان } : تنزيه لسليمان عن الكفر ، أي ليس ما اختلقته الجن من نسبة ما تدعيه إلى سليمان تعاطاه سليمان ، لأنه كفر ، ومن نبأه الله تعالى منزه عن المعاصي الكبائر والصغائر ، فضلاً عن الكفر .
وفي ذلك دليل على صحة نفي الشيء عمن لا يمكن أن يقع منه ، لأنّ النبي لا يمكن أن يقع منه الكفر ، ولا يدل هذا على أن ما نسبوه إلى سليمان من السحر يكون كفراً ، إذ يحتمل أنهم نسبوا إليه الكفر مع السحر .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود : انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء ، وما كان إلا ساحراً .
ولم يتقدّم في الآيات أن أحداً نسب سليمان إلى الكفر ، ولكنها آية نزلت في السبب المتقدّم أن اليهود نسبته إلى السحر والعمل به .
{ ولكن الشيطان كفروا } : كفرهم ، إما بتعليم السحر ، وإما تعلمهم به ، وإما بتكفيرهم سليمان به ، ويحتمل أن يكون كفرهم بغير ذلك .
واستعمال لكن هنا حسن ، لأنها بين نفي وإثبات .
وقرئ : ولكنّ بالتشديد ، فيجب إعمالها ، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو .
وقرئ : بتخفيف النون ورفع ما بعدها بالابتداء والخبر ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي .
وإذا خففت ، فهل يجوز إعمالها ؟ مسألة خلاف الجمهور على المنع ونقل أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها ، ونقل ذلك غيره عن الأخفش ، والصحيح المنع .
وقال الكسائي والفراء : الاختيار ، التشديد إذا كان قبلها واو ، والتخفيف إذا لم يكن معها واو ، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلى واو معها .
كبل : فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل ، لأن بل لا تدخل عليها الواو ، فإذا كانت لكن مشدّدة عملت عمل إن ، ولم تكن عاطفة .
وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة ، وهي مسألة خلاف الجمهور على أن لكنّ تكون عاطفة .
وذهب يونس إلى أنها لبيست من حروف العطف ، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك من لسان العرب ، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف ، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله }
وأما إذا جاءت بعدها الجملة ، فتارة تكون بالواو ، وتارة لا يكون معها الواو ، كما قال زهير :
إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره *** لكن وقائعه في الحرب تنتظر
وأما ما يوجد في كتب النحويين من قولهم : ما قام زيد لكن عمرو ، وما ضربت زيداً لكن عمراً ، وما مررت بزيد لكن عمرو ، فهو من تمثيلهم ، لا أنه مسموع من العرب .
ومن غريب ما قيل في لكن : إنها مركبة من كلم ثلاث : لا للنفي ، والكاف للخطاب ، وأن التي للإثبات والتحقيق ، وأن الهمزة حذفت للاستثقال ، وهذا قول فاسد ، والصحيح أنها بسيطة .
{ يعلمون الناس السحر } : الضمير في يعلمون اختلف في من يعود عليه ، فالظاهر أنه يعود على الشياطين ، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم ، وهو اختيار الزمخشري .
وعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في كفروا .
ورد بأن لكن لا تعمل في الحال ، وقيل : بدل من كفروا ، بدل الفعل من الفعل ، لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى .
والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم .
وقيل : الضمير عائد على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين .
على اختلاف المفسرين فيمن يعود عليه ضمير اتبعوا ، فيكون المعنى : يعلم المتبعون ما تتلو الشياطين الناس ، فالناس معلمون للمتبعين .
وعلى القول الأول يكونون معلمين للشياطين .
واختلف في حقيقة السحر على أقوال : الأول : أنه قلب الأعيان واختراعها وتغيير صور الناس مما يشبه المعجزات والكرامات ، كالطيران وقطع المسافات في ليلة .
الثاني : أنه خدع ومخاريق وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها ، ويدل عليه ، { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } وفي الحديث ، حين سحر لبيد بن الأعصم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله » .
وهو قول المعتزلة : يرون أن السحر ليست له حقيقة ، ووافقهم أبو إسحاق الاسترأباذي من الشافعية .
الثالث : أنه أمر يأخذ بالعين على جهة الحيلة ، ومنه : { سحروا أعين الناس } كما روي أن حبالهم وعصيهم كانت مملوءة زئبقاً ، فسجروا تحتها ناراً ، فحميت الحبال والعصي ، فتحركت وسعت .
ولأرباب الحيل والدك والشعوذة من هذا أشياء ، يبين كثير منها في الكتاب المسمى ( بكشف الدّك والشعوذة وإيضاح الشك ) ، وفي كتاب ( إرخاء الستور والكلل في الشعوذة والحيل ) .
وفي الحديث ، حين انشق القمر نصفين بمكة ، قال أبو جهل : اصبروا حتى يأتي أهل البوادي ، فإن لم يخبروا بذلك ، كان محمد قد سحر أعيننا ، فأتوا فأخبروا بذلك ، فقال : ما هذا إلا سحر عظيم .
الرابع : أنه نوع من خدمة الجن ، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف أجسامهم وهيآتها ، فلطف ودق وخفي .
الخامس : أنه مركب من أجسام تجمع وتحرق ، وتتخذ منها أرمدة ومداد ، ويتلى عليها أسماء وعزائم ، ثم تستعمل فيما يحتاج إليها من السحر .
السادس : أن أصله طلسمات وقلفطريات ، تبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصى فرعون ، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسر .
السابع : أنه مركب من كلمات ممزوجة بكفر .
قال بعض معاصرينا : هذه الأقوال كلها التي قالوها في حقيقة السحر أنواع من أنواع السحر ، وقد ضم إليها أنواع أخر من الشعبذة والدّك والنارنجيات والأوفاق والعزائم وضروب المنادل والصرع ، وما يجري مجرى ذلك .
ولا يشك في أن السحر كان موجوداً ، لنطق القرآن والحديث الصحيح به .
وأما في زماننا الآن ، فكلما وقفنا عليه في الكتب ، فهو كذب وافتراء ، لا يترت بعليه شيء ، ولا يصح منه شيء ألبتة .
وكذلك العزائم وضرب المندل ، والناس الذين يعتقد فيهم أنهم عقلاء ، يصدّقون بهذه الأشياء ، ويصغون إلى سماعها .
وقد رأيت بعض من ينتمي إلى العلم ، إذا أفلس ، وضع كتباً وذكر فيها أشياء من رأسه ، وباعها في الأسواق بالدراهم الجيدة .
وقد أطلق اسم السحر بعض العلماء على الوشي بين الناس بالنميمة ، لأن فيه قلب الصديق عدواً ، والحبيب بغيضاً .
كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذب ، لما فيه من الاستمالة ، وسمي : سحراً حلالاً .
وقد روي أن من البيان لسحراً ، وقال :
وحديثها السحر الحلال لو أنه *** لم يجن قتل المسلم المنحرز
وظاهر قوله : { يعلمون الناس السحر } : أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم .
وقيل : المعنى يدلونهم على تلك الكتب ، فأطلق على الدلالة تعليماً ، تسمية للمسبب بالسبب .
وقيل : المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق ، تضر وتنفع ، وأن سليمان إنما تم له ما تم بذلك ، وهذا أيضاً تسمية للمسبب بالسبب .
وقيل : يعلمون معناه يعلمون ، أي يعلمونهم بما يتعلمون به السحر ، أو بمن يتعلمون منه ولم يعلموهم ، فهو من باب الإعلام لا من باب التعليم .
وأما حكم السحر ، فما كان منه يعظم به غير الله من الكواكب والشياطين ، وإضافة ما يحدثه الله إليها ، فهو كفر إجماعاً ، لا يحل تعلمه ولا العمل به .
وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء ، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء .
وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك ، بل يحتمل ، فالظاهر أنه لا يحل تعلمه ولا العمل به .
وما كان من نوع التحيل والتخييل والدّك والشعبذة ، فإن قصد بتعليمه العمل به والتمويه على الناس ، فلا ينبغي تعلمه ، لأنه من باب الباطل .
وإن قصد بذلك معرفته لئلا تتم عليه مخايل السحرة وخدعهم ، فلا بأس بتعلمه ، أو اللهو واللعب ، وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره .
وأما سحر البيان ، فما أريد به تأليف القلوب على الخير ، فهو السحر الحلال ، أو ستر الحق ، فلا يجوز تعلمه ولا العمل به .
وأما حكم الساحر حدًّا وتوبة ، فقد تعرض المفسرون لذلك ، ولم تتعرض إليه الآية ، وهي مسألة موضوعها علم الفقه ، فتذكر فيه .
{ وما أنزل } : ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب ، وأنه معطوف على قوله : السخر ، وظاهر العطف التغاير ، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحراً .
وقيل : هو معطوف على ما تتلو الشياطين ، أي { واتبعوا ما تتلو الشياطين } ، و { الذي أنزل } وظاهره أن ما علموه الناس ، أو ما اتبعوه هو منزل .
واختلف في هذا المنزل الذي علم ، أو الذي اتبع فقيل : علم السحر أنزل على الملكين ابتلاء من الله للناس ، من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً ، ومن تجنبه أو تعلمه لا يعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمناً ، كما ابتلى قوم طالوت بالنهر ، وهذا اختيار الزمخشري .
وقال مجاهد وغيره : المنزل هو الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه ، وهو دون السحر .
وقيل : السحر ليعلم على جهة التحذير منه ، والنهي عنه ، والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه .
وقيل : ما في موضع جر عطفاً على ملك سليمان ، والمعنى : افتراء على ملك سليمان ، وافتراء على ما أنزل على الملكين ، وهو اختيار أبي مسلم ، وأنكر أن يكون الملكان نازلاً عليهما السحر ، قال : لأنه كفر ، والملائكة معصومون ، ولأنه لا يليق بالله إنزاله ، ولا يضاف إليه ، لأن الله يبطله ، وإنما المنزل على الملكين الشرع ، وإنهما كانا يعلمان الناس ذلك .
وقيل : ما حرف نفي ، والجملة معطوفة على { وما كفر سليمان } ، وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكال بالسحر ، فنفى الله ذلك .
{ على الملكين } : قراءة الجمهور بفتح اللام ، وظاهره أنهما ملكان من الملائكة ، وقد تقدّم الكلام على الملك في قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة } فقيل : هما جبريل وميكال ، كما ذكرناه في هذا القول الأخير .
وقيل : ملكان غيرهما وهما : هاروت وماروت .
وقيل : ملكان غيرهما ، وسيأتي إعراب هاروت وماروت على تقدير هذه الأقوال ، إن شاء الله .
وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود الدؤلي والضحاك وابن ابزي : الملكين ، بكسر اللام ، فقال ابن عباس : هما رجلان ساحران كانا ببابل ، لأن الملائكة لا تعلم الناس السحر .
وقال الحسن : هما علجان ببابل العراق .
وقال أبو الأسود : هما هاروت وماروت ، وهذا موافق لقول الحسن .
وقال ابن أبزي : هما داود وسليمان ، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام .
فعلى قول ابن أبزي تكون ما نافية ، وعلى سائر الأقوال ، في هذه القراءة ، تكون ما موصولة .
ومعنى الإنزال : القذف في قلوبهما .
وقد ذكر المفسرون ، في قراءة من قرأ : الملكين بفتح اللام ، قصصاً كثيراً ، تتضمن : أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله به ، وأن الله تعالى بكتهم ، بأن قال لهم : اختاروا ملكين للهبوط إلى الأرض ، فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما الشهوة ، فحكما بين الناس ، وافتتنا بامرأة ، تسمى بالعربية الزهرة ، وبالفارسية ميذخت ، فطلباها وامتنعت ، إلا أن يعبدا صنماً ، ويشربا الخمر ويقتلا .
فخافا على أمرهما ، فعلماها ما تصعد به إلى السماء وما تنزل به ، فصعدت ونسيت ما تنزل به ، فمسخت .
وأنهما تشفعا بإدريس إلى الله تعالى ، فخيرهما في عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما ببابل يعذبان .
وذكروا في كيفية عذابهما اختلافاً .
والملائكة معصومون ، { لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون } { لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } ولا يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلعن الزهرة ولا ابن عمر .
وقيل : سبب إنزال الملكين : أن السحرة كثروا في ذلك الزمان ، وادعوا النبوّة ، وتحدّوا الناس بالسخر .
فجاء ليعلما الناس السحر ، فيتمكنوا من معارضة السحر ، فيتبين كذبهم في دعواهم النبوّة ، أو لأن المعجزة والسحر ماهيتان متباينتان ، ويعرض بينهما الالتباس .
فجاء الإيضاح الماهيتين ، أو لأن السحر الذي يوقع التفرقة بين أعداء الله وأوليائه كان مباحاً ، أو مندوباً ، فبعثا لذلك ، ثم استعمله القوم في التفرقة بين أولياء الله .
أو لأن الجن كان عندهم من أنواع السحر ما لم تقدر البشر على مثله ، فأنزلا بذلك لأجل المعارضة .
وقيل : أنزلا على إدريس ، لأن الملائكة لا يكونون رسلاً لكافة الناس ، ولا بد من رسول من البشر .
{ ببابل } : قال ابن مسعود : هي في سواد الكوفة .
وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين .
وقيل : في أرض غير معلومة ، فيها هاروت وماروت ، وسميت ببابل ، قال الخليل : لتبلبل الألسنة حين أراد الله أن يخالف بينها ، أتت ريح فحشرت الناس إلى بابل ، فلم يدر أحد ما يقول الآخر ، ثم فرّقتهم الريح في البلاد .
وقيل : لتبلبل الألسنة بها عند سقوط قصر نمروذ .
{ هاروت وماروت } : قرأ الجمهور : بفتح التاء ، وهما بدل من الملكين ، وتكون الفتحة علامة للجرّ لأنهما لا ينصرفان ، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما .
وقيل : بدل من الناس ، فتكون الفتحة علامة للنصب ، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين .
وقيل : هما قبيلتان من الشياطين ، فعلى هذا يكونان بدلاً من الشياطين ، وتكون الفتحة علامة للنصب ، على قراءة من نصب الشياطين .
وأما من رفع الشياطين ، فانتصابهما على الذم ، كأنه قال : أذم هاروت وماروت ، أي هاتين القبيلتين ، كما قال الشاعر :
أقارع عوف لا أحاول غيرها *** وجوه قرود تبتغي من تخادع
وهذا على قراءة الملكين ، بفتح اللام .
وأما من قرأ بكسرها ، فيكونان بدلاً من الملكين ، إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام ، فلا يكون هاروت وماروت بدلاً منهما ، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه .
وقرأ الحسن والزهري : هاروت وماروت بالرفع ، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف ، أي هما هاروت وماروت ، إن كانا ملكين .
وجاز أن يكونا بدلاً من الشياطين ، الأول أو الثاني ، على قراءة من رفعه ، إن كانا شيطانين .
وتقدّم لنا القول في هاروت وماروت ، وأنهما أعجميان .
وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت ، وهو الكسر ، وقوله خطأ ، بدليل منعهم الصرف لهما ، ولو كانا ، كما زعم ، لانصرفا ، كما انصرف جاموس إذا سميت به .
واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحراً .
{ وما يعلمان من أحد } : قرأ الجمهور : بالتشديد ، من علم على بابها من التعليم .
وقالت طائفة : هو هنا بمعنى يعلمان التضعيف ، والهمزة بمعنى واحد ، فهو من باب الإعلام ، ويؤيده قراءة طلحة بن مصرّف .
وما يعلمان : من أعلم قال : لأن الملكين إنما نزلا يعلمان السحر وينهيان عنه .
والضمير في يعلمان عائد على الملكين ، أي وما يعلم الملكان .
وكذلك قراءة أبي ، أي بإظهار الفاعل لا إضماره .
وقيل : عائد على هاروت وماروت ، ففي القول الأول يكون عائداً على المبدل منه ، وفي الثاني على البدل ، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس ، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام ، فزيدت هنا لتأكيد ذلك ، بخلاف قولك : ما قام من رجل ، فإنها زيدت لاستغراق الجنس ، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين ، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة ، وأن يكون قبلها غير واجب .
وقد أمعنا الكلام على زيادة من في ( كتاب منهج السالك ) من تأليفنا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد ، والأول أظهر .
{ حتى يقولا } حتى هنا : حرف غاية ، والمعنى انتفاء تعليمهما ، أو إعلامهما على اختلاف القولين في يعلمان إلى أن يقولا : { إنما نحن فتنة } .
وقال أبو البقاء : حتى هنا بمعنى إلا أن ، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحداً من المتقدّمين ذكره .
وقد ذكره ابن مالك في ( التسهيل ) وأنشد عليه في غيره :
قال : يريد إلا أن تجود ، وما في { إنما } كافة ، لإن عن العمل ، فيصير من حروف الابتداء .
وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما ، نحو : إنما زيداً قائم .
{ نحن فتنة } : أي ابتلاء واختبار .
{ فلا تكفر } : قال علي رضي الله عنه : كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه ، كأنهما يقولان : لا تفعل كذا ، كما لو سأل سائل عن صفة الزنا ، أو القتل ، فأخبر بصفته ليجتنبه .
فكان المعنى في يعلمان : يعلمان .
وقال الزمخشري : فلا تكفر : فلا تتعلم ، معتقداً أنه حق فتكفر .
وحكى المهدوي : أن قولهما { إنما نحن فتنة } ، فلا تكفر استهزاء ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله .
وقال في ( المنتخب ) قوله : { إنما نحن فتنة } توكيد لقبول الشرع والتمسك به ، فكانت طائفة تمثيل وأخرى تخالف .
وقيل : فلا تكفر ، أي لا تستعمله فيما نهيت عنه ، ولكن إذا وقفت عليه فتحرز من أن ينفذ لساحر عليك تمويه .
وهذا على قول من قال : تعلمه جائز والعمل به كفر .
وقيل : فلا تكفر بتعليم السحر ، وهذا على قول من قال : إن تعلمه كفر .
وقيل : فلا تكفر بنا ، وهذا على قول : إن الملكين نزلا من السماء بالسحر ، وإن من تعلمه في ذلك الوقت كان كافراً ، ومن تركه كان مؤمناً ، كما جاء في نهر طالوت ، وقد تقدم ما حكاه المهدوي إن قولهما : فلا تكفر ، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل النصيحة .
وقوله : حتى يقولا مطلقاً في القول ، وأقل ما يتحقق بالمرة الواحدة ، فقيل مرة ، وقيل سبع مرات ، وقيل تسع مرات ، وقيل ثلاث .
ويحتاج ذلك إلى صحة نقل ، وإن لم يوجد ، فيكون محتملاً ، والمتحقق المرة الواحدة .
واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما ، فقال مجاهد : هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ، ويختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافه واحدة ، فيتعلمان منهما ما يفرّقان به بين المرء وزوجه .
والظاهر أن هاروت وماروت هما اللذان يباشران التعليم لقوله : { وما يعلمان } .
وقد ذكر المفسرون قصصاً فيما يعرض من المحاورة بين الملكين وبين من جاء ليتعلم منهما ، وفي كل من ذلك القصص أنهما يأمرانه بأن يبول في تنور .
فاختلفوا في الإيمان الذي يخرج منه ، أيرى فارساً مقنعاً بحديد يخرج منه حتى يغيب في السماء ؟ أو نوراً خرج من رماد يسطع حتى يدخل السماء ؟ أو طائراً خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء ؟ وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان .
وهذا كله شيء لا يصح ألبتة ، فلذلك لخصنا منه شيئاً ، وإن كان لا يصح ، حتى لا نخلي كتابنا مما ذكروه .
{ فيتعلمون } : قاله الفراء ، واختاره الزجاج ، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام ، كأنه قال : فيأبون فيتعلمون .
وقال الفرّاء أيضاً : هو عطف على { يعلمون الناس السحر } ، { فيتعلمون منهما } .
وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون ، وقد قال منهما .
وأجازه أبو علي وغيره ، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون ، وإن كان التعليم من الملكين خاصة ، والضمير في منهما راجع إليهما ، لأن قوله : فيتعلمون منهما ، إنما جاء بعد ذكر الملكين .
وقال سيبويه : هو معطوف على كفروا ، قال : وارتفعت فيتعلمون ، لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا : لا تكفر ، فيتعلموا ليجعلا كفره سبباً لتعلم غيره ، ولكنه على كفروا فيتعلمون .
يريد سيبويه : أنّ فيتعلمون ليس بجواب لقوله : فلا تكفر ، فينصب كما نصب { لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب } لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية ، ليس سبباً لتعلم من يتعلم .
وكفروا : في موضع فعل مرفوع ، فعطف عليه مرفوع ، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا ، أو على يعلمون ، بأن فيه إضمار الملكين .
قيل : ذكرهما من أجل أن التقدير : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس الحسر ، فيتعلمون منهما } ، لأن قوله : { فيتعلمون منهما } إنما جاء بعد ذكر الملكين ، كما تقدّم .
وقد نقل عن سيبويه أن قوله : فيتعلمون ، هو على إضمارهم ، أي فهم يتعلمون ، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل ، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس ، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفاً على يعلمان ، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد ، وجمع حملاً على المعنى ، كما قال تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } وهذا العطف ، وإن كان على منفي ، فلذلك المنفي هو موجب في المعنى ، لأن معناه : إنهما يعلمان كل واحد ، إذا قالا له : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } .
وقال الزجاج أيضاً : الأجود أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون ، واستغنى عن ذكر يعلمان ، بما في الكلام من الدليل عليه .
وقال أبو علي : لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان ، لأنه موجود في النص .
انتهى كلام أبي علي ، وهو كلام فيه مغالطة ، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان ، الداخل عليها ما النافية في قوله : ولا ما يعلمان ، فيكون يعلمان موجوداً في النص ، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية .
وهذا الذي قدّره الزجاج ليس موجوداً في النص .
وحمل أبا عليّ على هذه المغالطة حب ردّه على الزجاج وتخطئته ، لأنه كان مولعاً بذلك .
وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس .
انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف ، وأكثره كلام المهدوي ، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك .
وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقدير : فيأبون فيتعلمون ، أو يعلمان فيتعلمون ، أي على مثبت ، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية ، أو معطوفاً على يعلمون الناس ، أو معطوفاً على كفروا ، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى .
فتلك أقوال ستة ، أقر بها إلى اللفظ هذا القول الأخير .
{ منهما } : الضمير في الظاهر عائد على الملكين ، أي فيتعلمون من الملكين ، سواء قرئ بفتح اللام ، أو كسرها .
وقيل : يعود على السحر ، وعلى الذي أنزل على الملكين ، وقيل : عائد على الفتنة والكفر ، الذي هو مصدر مفهوم من قوله : { فلا تكفر } ، وهذا قول أبي مسلم ، والتقدير عنده : فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه .
{ ما يفرقون به } : ما موصولة ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأجل عود الضمير عليها .
والمصدرية لا يعود عليها ضمير ، لأنها حرف في قول الجمهور ، والذي يفرق به هو السحر .
وعني بالتفريق : تفريق الألفة والمحبة ، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترقان ، أو تفريق الدين ، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتداً ، فيكون ذلك مفرقاً بينهما .
{ بين المرء } : قراءة الجمهور بفتح الميم وسكون الراء والهمز .
وقرأ الحسن والزهري وقتادة : المر بغير همز مخففاً .
وقرأ ابن أبي إسحاق : المرء بضم الميم والهمزة .
وقرأ الأشهب العقيلي : المرء بكسر الميم والهمز ، ورويت عن الحسن .
وقرأ الزهري أيضاً : المر بفتح الميم وإسقاط الهمز وتشديد الراء .
فأمّا فتح الميم وكسرها وضمها فلغات ، وأما المر بكسر الراء فوجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وأما تشديدها بعد الحذف ، فوجهه أنه نوى الوقف فشدد ، كما روي عن عاصم : مستطرّ بتشديد الراء في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، فأقرها على تشديدها فيه .
{ وزوجه } : ظاهره أنه يريد به امرأة الرجل .
وقيل الزوج هنا : الأقارب والإخوان ، وهم الصنف الملائم للإنسان ، ومنه { من كل زوج بهيج } { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } { وما هم بضارّين به } : الضمير الذي هو : هم عائد على السحرة الذين عاد عليهم ضمير فيتعلمون .
وقيل : على اليهود الذين عاد عليهم ضمير واتبعوا .
وبضارين : في موضع نصب على أن ما حجازية ، أو في موضع رفع على أن ما تميمية .
والضمير في به عائد على ما في قوله : { ما يفرقون } .
وقرأ الجمهور : بإثبات النون في بضارين .
وقرأ الأعمش : بحذفها ، وخرّج ذلك على وجهين : أحدهما : أنها حذفت تخفيفاً ، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام .
والثاني : أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو به ، كما قال :
هما أخوا في الحرب من لا أخا له***
كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي***
وهذا اختيار الزمخشري ، ثم استشكل ذلك ، لأن أحداً مجرور بمن ، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة ؟ فقال : فإن قلت : كيف يضاف إلى أحد ، وهو مجرور بمن ؟ قلت : جعل الجار جزءاً من المجرور . انتهى .
وهذا التخريج ليس بجيد ، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف ، والجار والمجرور من ضرائر الشعر ، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه ، لأنه مشغول بعامل جر ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة .
وأما جعل حرف الجر جزأ من المجرور ، فهذا ليس بشيء ، لأنه مؤثر فيه .
وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء ، والأجود التخريج الأول ، لأن له نظيراً في نظم العرب ونثرها .
فمن النثر قول العرب ، قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا ، يريدون : ثنتان ومائتان .
{ من أحد } ، من زائدة ، وأحد : مفعول بضارين .
ومن تزاد في المفعول ، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولاً للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو : ما ضربت من رجل ، وما ضرب زيد من رجل .
وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل ، لأن المعنى : وما يضرون من أحد .
{ إلا بإذن الله } : مستثنى مفرغ من الأحوال ، فيحتمل أن يكون حالاً من الضمير الفاعل في قوله : { بضارين } ، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول الذي هو : { من أحد } ، ويحتمل أن يكون حالاً من به ، أي السحر المفرق به ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضرر المصدر المعرف المحذوف .
والإذن هنا فسر الوجوه التي ذكرناها عند الكلام على المفردات .
فقال الحسن : الإذن هنا : هو التخلية بين المسحور وضرر السحر .
وقال غيره : الخلق ، ويضاف إلى إذنه كقوله : { كن فيكون } وقيل : الأمر ، قيل : والإذن حقيقة فيه ، واستبعد ذلك ، لأن الله لا يأمر بالسحر ، ولأنه ذمّهم على ذلك .
وأوّل معنى الأمر فيه بأن يفسر التفريق بالصيرورة .
كافراً فإن هذا حكم شرعي ، وذلك لا يكون إلا بأمر الله .
وفي هذه الجملة دليل على أن ما يتعلمون له تأثير وضرر ، لكن ذلك لا يضر إلا بإذن الله ، لأنه ربما أحدث الله عنده شيئاً ، وربما لم يحدث .
{ ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } : لما ذكر أنه يحصل به الضرر لمن يفرق بينهما ، ذكر أيضاً أن ضرره لا يقتصر على من يفعل به ذلك ، بل هو أيضاً يضر من تعلمه .
ولما كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النفع ، لأنه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر ويحصل به النفع ، نفى النفع عنه بالكلية ، وأتى بلفظ لا ، لأنها ينفي بها الحال والمستقبل .
والظاهر أن { ولا يننفعهم } معطوف على { يضرهم } ، وكلا الفعلين صلة لما ، فلا يكون لها موضع من الإعراب .
وجوز بعضهم أن يكون لا ينفعهم على إضمار هو ، أي وهو لا ينفعهم ، فيكون في موضع رفع ، وتكون الواو للحال ، فتكون جملة حالية ، وهذا ضعيف .
وقد قيل : الضرر وعدم النفع مختص بالآخرة .
وقيل : هو في الدنيا والآخرة ، فإن تعلمه ، إن كان غير مباح ، فهو يجر إلى العمل به ، وإلى التنكيل به ، إذا عثر عليه ، وإلى أن ما يأخذه عليه حرام هذا في الدنيا .
وأما في الآخرة فلما يترتب عليه من العقاب .
{ ولقد علموا } : الضمير عائد على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام ، وكانوا حاضرين استخراج الشياطين السحر ودفنه ، أو أخذ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيه ، ولما أخرجوه بعد موته قالوا : والله ما هذا من عمل سليمان ولا من دخائزه .
وقيل : عائد على من بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود .
وقيل : عائد على اليهود قاطبة ، أي علموا ذلك في التوراة .
وقيل : عائد على علماء اليهود .
وقيل : على الملكين ، لأنهما كانا يقولان لمن يتعلم الحسر : فلا تكفر ، فقد علموا أنه لا خلاق له في الآخرة .
وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك .
وعلم : هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين ، وعلقت عن الجملة ، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعول واحد ، وعلقت أيضاً كما علقت عرفت .
والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها .
واللام في : { لمن اشتراه } هي لام الابتداء ، وهي المانعة من عمل علم ، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق ، وأجازوا حذفها ، وهي باقية على منع العمل ، وخرجوا على ذلك .
ومن هنا موصولة ، وهي مرفوعة بالابتداء .
والجملة من قوله : { وما له في الآخرة من خلاق } في موضع الخبر .
هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين .
وجملة { ولقد علموا } مقسم عليها التقدير : والله لقد علموا .
والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها .
وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسماً عليهما ، وتكون من للشرط ، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء .
قال أبو البقاء : اللام في { لمن اشتراه } هي التي يوطأ بها القسم مثل : { لئن لم تنته } ومن في موضع رفع بالابتداء ، وهي شرط وجواب القسم { ما له في الآخرة من خلاق } .
فاشتراه في القول الأول صلة ، وفي هذا القول خبر عن من ، ويكون إذ ذاك جواب الشرط محذوفاً يدل عليه جواب القسم ، لأنه اجتمع قسم وشرط ، ولم يتقدّمهما ذو خبر ، فكان الجواب للسابق ، وهو القسم ، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ .
هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه .
وفي كلا القولين يكون : لمن اشتراه ، في موضع نصب : بيعلموا .
وقد نقل عن الزجاج ردّ قول من قال من شرط ، وقال هذا ليس موضع شرط ، ولم ينقل عنه توجيه ، كونه ليس موضع شرط .
وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظاً ومعنى ، لأن الاشتراء قد وقع ، وجعله شرطاً لا يصح ، لأن فعل الشرط إذا كان ماضياً لفظاً ، فلا بد أن يكون مستقبلاً في المعنى .
فلما كان كذلك ، كان ليس موضع شرط .
والضمير المنصوب في اشتراه عائد على السحر ، أو الكفر ، أو كتابهم الذي باعوه بالسحر ، أو القرآن ، لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر ، أقوال أربعة .
والخلاق : النصيب ، قاله مجاهد ، أو الدين ، قاله الحسن ؛ أو القوام ، قاله ابن عباس ، أو الخلاص ، أو القدر ، قاله قتادة ؛ أقوال خمسة .
{ ولبئس ما شروا به أنفسهم } : تقدّم القول في بئس ، وفي ما الواقعة بعدها ، ومعناه : ذمّ ما باعوا به أنفسهم .
والضمير في به عائد على السحر ، أو الكفر .
والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره : على أحسن الوجوه التي تقدّمت في بئسما السحر ، أو الكفر .
والضمير في : شروا ، ويعلمون ، باتفاق لليهود .
فمتى فسر الضمير في ولقد علموا بأنه عائد على الشياطين ، أو اليهود الذين كانوا بحضرة سليمان ، وفي زمانه ، أو الملكين بفتح اللام ، أو بكسرها ، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم .
وإن اتحد المسند إليه ، أوّل العلم الثاني بالعقل ، لأن العلم من ثمرته ، فلما انتفى الأصل ، نفى ثمرته .
أو بالعمل ، لأنه من ثمرة العلم ، فلما انتفت الثمرة ، جعل ما ينشأ عنه منفياً ، أو أوّل متعلق العلم ، وهو المحذوف ، أي علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلموا نفعه في الدنيا .
أو علموا نفي الثواب ، ولم يعلموا استحقاق العذاب .