جبريل : اسم ملك علم له ، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف ، للعلمية والعجمة ، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله ، ومن ذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة .
ومعنى جبر : عبد وإيل ، اسم من أسماء الله ، لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي ، ولأنه لو كان مركباً تركيب الإضافة لكان مصروفاً .
وقال المهدوي : ومن قال : جبر ، مثل : عبد وإيل ، اسم من أسماء الله ، جعله بمنزلة حضرموت .
يعني أنه يجعله مركباً تركيب المزح ، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب .
وليس ما ذكر بصحيح ، لأنه إما أن يلحظ فيه معنى الإضافة ، فيلزم الصرف في الثاني ، وإجراء الأول بوجوه الإعراب ، أو لا يلحظ ، فيركبه تركيب المزج .
فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف ، فكونه لم يسمع فيه الإضافة ، ولا البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج .
وقد تصرّفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية ، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة .
قالوا : جبريل : كقنديل ، وهي لغة أهل الحجاز ، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص .
وجبريل يأتيه وميكال معهما ***من الله وحي يشرح الصدر منزل
والروح جبريل منهم لا كفاء له *** وكان جبريل عند الله مأموناً
وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء
وكذلك إلا أن الجيم مفتوحة ، وبها قراءة الحسن وابن كثير وابن محيصن .
قال الفراء : لا أحبها ، لأنه ليس في الكلام فعليل ، وما قاله ليس بشيء ، لأن ما أدخلته العرب في كلامها على قسمين : منه ما تلحقه بأبنية كلامها ، كلجام ، ومنه ما لا تلحقه بها ، كابريسم .
فجبريل ، بفتح الجيم ، من هذا القبيل .
وقيل : جبريل مثل شمويل ، وهو طائر .
وجبرئيل كعنتر يس ، وهي لغة : تميم ، وقيس ، وكثير من أهل نجد .
حكاها الفراء ، واختارها الزجاج وقال : هي أجود اللغات .
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة *** مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد *** وبجبرئيل وكذبوا ميكال
وهي قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وحماد بن أبي زياد ، عن أبي بكر ، عن عاصم .
ورواها الكسائي ، عن عاصم ، وكذلك .
إلا أنه بغير ياء بعد الهمزة ، وهي رواية يحيى بن آدم ، عن أبي بكر ، عن عاصم .
وتروى عن يحيى بن يعمر ، وكذلك .
إلا أن اللام مشدّدة ، وهي قراءة أبان ، عن عاصم ويحيى بن يعمر .
وجبرائيل وجبراييل ، وقرأ بهما ابن عباس وعكرمة .
وجبرالُ وجبرائل بالياء والقصر ، وبها قرأ طلحة .
وجبراييل بألف بعد الراء ، بعدها ياءان ، أولاهما مكسورة ، وقرأ بها الأعمش وابن يعمر أيضاً .
وجبرين وجبرين ، وهذه لغة أسد .
قال أبو جعفر النحاس : جمع جبريل جمع التكسير على جباريل على اللغة العالية .
إذن : به علم به ، وآذنه : أعلمه .
إذن لي في كذا : أي مكنني منه .
وعلى الاختيار فعلته بإذنك : أي باختيارك .
{ قل من كان عدوًّا لجبريل } : أجمع أهل التفسير أن اليهود قالوا : جبريل عدوّنا ، واختلف في كيفية ذلك ، وهل كان سبب النزول محاورتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، أو محاورتهم مع عمر ؟ وملخص العداوة : أن ذلك لكونه يأتي بالهلاك والخسف والجدب ، ولو كان ميكال صاحب محمد لاتبعناه ، لأنه يأتي بالخصب والسلم ، ولكونه دافع عن بخت نصّر حين أردنا قتله ، فخرب بيت المقدس وأهلكنا ، ولكونه يطلع محمداً صلى الله عليه وسلم على سرنا .
والخطاب بقوله : قل للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومعمول القول : الجملة بعدو من هنا شرطية .
وقال الراغب : العداوة ، التجاوز ومنافاة الالتئام .
فبالقلب يقال العداوة ، وبالمشي يقال العدو ، وبالإخلال في العدل يقال العدوان ، وبالمكان أو النسب يقال قوم عدي ، أي غرباء .
{ فإنه نزله } : ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه ، فلو قلت : من يكرمني ؟ فزيد قائم ، لم يجز .
وقوله : { فإنه نزله على قلبك } ، ليس فيه ضمير يعود على من .
وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري ، وهو خطأ ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير ، ولمضي فعل التنزيل ، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء ، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه ، التقدير : فعداوته لا وجه لها ، أو ما أشبه هذا التقدير .
والضمير في فإنه عائد على جبريل ، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالة المعنى عليه .
ألا ترى إلى قوله : { مصدّقاً لما بين يديه ، وهدى وبشرى للمؤمنين } ؟ وهذه كلها من صفات القرآن .
ولقوله : { بإذن الله } ، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله .
وقيل : الضمير في فإنه عائد على الله ، وفي نزله عائد على جبريل ، التقدير : فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك .
وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود على ما يدل عليه سياق المعنى .
لكن التقدير الأول أولى ، لما ذكرناه ، وليكون موافقاً لقوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك } وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ : نزل بالتشديد ، والروح بالنصب .
ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدواً لجبريل ، فعداوته لا وجه لها ، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب ، والهادي والمبشر ، كمن آمن .
ومن كان هذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر ، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله ، أو من كان عدوًّا لجبريل ، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدّق لكتابهم ، والملزم لهم اتباعك ، وهم لا يريدون ذلك ، ولذلك حرّفوا ما في كتبهم من صفاتك ، ومن أخذ العهود عليهم فيها ، بأن يتبعوك .
والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين : أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة ، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك : إن عاداك زيد ، فقد آذيته وأسأت إليه .
{ على قلبك } : أتى بلفظ على ، لأن القرآن مستعل على القلب ، إذ القلب سامع له ومطيع ، يمتثل ما أمر به ، ويجتنب ما نهى عنه .
وكانت أبلع من إلى ، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط ، وعلى تدل على الاستعلاء .
وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه .
وخص القلب ، ولم يأت عليك ، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات ، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها ، وخزانته التي يحفظ فيها ، أو لأنه سلطان الجسد .
وفي الحديث : « إن في الجسد مضغة » ثم قال أخيراً : « ألا وهي القلب » أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه ، أو لأنه بيت الله ، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقاً للمحل على الحال به ، أو عن الجملة الإنسانية ، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن : { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } أو يكون إطلاقاً لبعض الشيء على كله ، أقوال سبعة .
وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب ، ولم يضفه إلى ياء المتكلم ، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهراً ، لأن قوله : { من كان عدواً لجبريل } ، هو معمول لقول مضمر ، التقدير : قل يا محمد قال الله من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك .
وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله تعالى ، كأنه قيل : ما تكلمت به من قولي : { من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك } ، وكلامه فيه تثبيج .
وقال ابن عطية : يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله ، فيسرده مخاطبة له ، كما تقول : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هذه الآية ، ونحو من هذا قول الفرزدق :
ألم تر أني يوم جوّ سويقة *** دعوت فنادتني هنيدة ماليا
فأحرز المعنى ، ونكب عن نداء هنيدة مالك .
انتهى كلامه ، وهو تخريج حسن ، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ : قل ، لا لقول : مضمر ، وهو ظاهر الكلام { بإذن الله } : أي بأمر الله ، اختاره في المنتخب ومنه : { لا تكلم نفس إلا بإذنه } { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقد صرح بذلك في : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة ، قاله ابن عطية ؛ أو باختياره ، قاله الماوردي ، أو بتيسيره وتسهيله ، قاله الزمخشري .
{ مصدّقاً لما بين يديه } : انتصاب مصدقاً على الحال من الضمير المنصوب في نزله ، إن كان يعود على القرآن ، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون حالاً من المجرور المحذوف لفهم المعنى ، لأن المعنى : فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقاً .
والثاني : أن يكون حالاً من جبريل .
وما : في لما موصولة ، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله ، أو التوراة والإنجيل .
والهاء : في بين يديه يحتمل أن تكون عائدة على القرآن ، ويحتمل أن تعود على جبريل .
فالمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل والكتب .
{ وهدى وبشرى } : معطوفان على مصدّقاً ، فهما حالان ، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال : وهادياً ومبشراً ، أو من باب المبالغة ، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى ، جعل نفس الهدى والبشرى .
والألف في بشرى للتأنيث ، كهي في رجعى ، وهو مصدر .
وقد تقدّم الكلام على المعنى في قوله : { وبشر الذين آمنوا } في أوائل هذه السورة ، والمعنى : أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدّمه من الكتب الإلهية ، وأنه هدى ، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح ، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى .
فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال ، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيباً وجودياً .
فالأول : كونه مصدّقاً للكتب ، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد .
والثاني : أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق .
والثالث : أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية .
وقال الراغب : وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة .
{ للمؤمنين } : خص الهدى والبشرى بالمؤمنين ، لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى ، كما قال : { وهو عليهم عمى } ولأن المؤمنين هم المبشرون ، { فبشر عبادي } { يبشرهم ربهم برحمة منه } ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره ، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه ، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة .
ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى ، قالوا : وهذه الآية تعلقت بها الباطنية ، وقالوا : إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول .
وردّ عليهم : بأنه معجزة ظاهرة بنظمه ، وأن الله سماه وحياً وكتاباً وعربياً ، وأن جبريل نزل به ، والملهم لا يحتاج إلى جبريل .