البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوَكُلَّمَا عَٰهَدُواْ عَهۡدٗا نَّبَذَهُۥ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (100)

نبذ الشيء ، ينبذه نبذاً : طرحه وألقاه .

{ أوَ كلما عاهدوا عهداً } : نزلت في مالك بن الصيف ، قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولا ميثاق .

وقيل في اليهود : عاهدوا على أنه إن خرج لنؤمنن به ولنكوننّ معه على مشركي العرب ، فلما بعث كفروا به .

وقال عطاء : هي العهود بينه وبين اليهود نقضوها ، كفعل قريظة والنضير .

قال تعالى : { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون } وقرأ الجمهور : أو كلما ، بفتح الواو .

واختلف في هذه الواو فقيل : هي زائدة ، قاله الأخفش .

وقيل : هي أو الساكنة الواو ، وحركت بالفتح ، وهي بمعنى بل ، قاله الكسائي .

وكلا القولين ضعيف .

وقيل : واو العطف ، وهو الصحيح .

وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين : أن الأصل تقديم هذه الواو ، والفاء ، وثم ، على همزة الاستفهام ، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام .

وإن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفاً معطوفاً عليه ، مقدّراً بين الهمزة وحرف العطف ، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات ؟ { وكلما عاهدوا } وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة .

وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى ( بالتكميل لشرح التسهيل ) .

والمراد بهذا الاستفهام : الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها ، فصار ذلك عادة لهم وسجية .

فينبغي أن لا يكترث بأمرهم ، وأن لا يصعب ذلك ، فهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ كفروا بما أنزل عليه ، لأن ما كان ديدناً للشخص وخلقاً ، لا ينبغي أن يحتفل بأمره .

وقرأ أبو السمال العدوي وغيره : أو كلما بسكون الواو ، وخرّج ذلك الزمخشري على أن يكون للعطف على الفاسقين ، وقدّره : وما يكفر بها إلا الذين فسقوا ، أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة .

وخرجه المهدوي وغيره على أن أو للخروج من كلام إلى غيره ، بمنزلة أم المنقطعة ، فكأنه قال : بل كلما عاهدوا عهداً ، كقول الرجل للرجل ، لأعاقبنك ، فيقول له : أو يحسن الله رأيك ، أي بل يحسن رأيك ، وهذا التخريج هو على رأي الكوفيين ، إذ يكون أو عندهم بمنزلة بل .

وأنشدوا شاهداً على هذه الدعوى قول الشاعر :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أو أنت في العين أملح

وقد جاء أو بمعنى الواو في قوله :

من بين ملجم مهره أو سافع***

وقوله :

صدور رماح أشرعت أو سلاسل***

يريد : وشافع وسلاسل .

وقد قيل في ذلك : في قوله خطيئة ، أو إثماً ، أن المعنى : وإثما فيحتمل أن تخرّج هذه القراءة الشاذة على أن تكون أو بمعنى الواو ، كأنه قيل : وكلما عاهدوا عهداً .

وقرأ الحسن وأبو رجاء : أو كلما عوهدوا على البناء للمفعول ، وهي قراءة تخالف رسم المصحف .

وانتصاب عهداً على أنه مصدر على غيرالصدر ، أي معاهدة ، أو على أنه مفعول على تضمين عاهد معنى : أعطى ، أي أعطوا عهداً .

وقرئ : عهدوا ، فيكون عهداً مصدراً ، وقد تقدم .

ما المراد بالعهد في سبب النزول ، فأغنى عن إعادته .

{ نبذه } : طرحه ، أو نقضه ، أو ترك العمل به ، أو اعتزله ، أو رماه .

أقوال خمسة ، وهي متقاربة المعنى .

ونسبة النبذ إلى العهد مجاز ، لأن العهد معنى ، والنبذ حقيقة ، إنما هو في المتجسدات :

{ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } { إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } فنبذ خاتمه ، فنبذ الناس خواتيمهم ، { لنبذ بالعراء } { فريق منهم } : الفريق اسم جنس لا واحد له ، يقع على القليل والكثير .

وقرأ عبد الله : نقضه فريق منهم ، وهي قراءة تخالف سواد المصحف ، فالأولى حملها على التفسير .

{ بل أكثرهم لا يؤمنون } : يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، وهو الظاهر ، فيكون أكثرهم مبتدأ ، ولا يؤمنون خبر عنه ، والضمير في أكثرهم عائد على من عاد عليه الضمير في عاهدوا ، وهم اليهود .

ومعنى هذا الإضراب هو : انتقال من خبر إلى خبر ، ويكون الأكثر على هذا واقعاً على ما يقع عليه الفريق ، كأنه أعم ، لأن من نبذ العهد مندرج تحت من لم يؤمن ، فكأنه قال : بل الفريق الذي نبذ العهد ، وغير ذلك الفريق ، محكوم عليه بأنه لا يؤمن .

وقيل : يحتمل أن يكون من باب عطف المفردات ، ويكون أكثرهم معطوفاً على فريق ، أي نبذه فريق منهم ، بل أكثرهم ، يكون قوله : لا يؤمنون ، جملة حالية ، العامل فيها نبذه ، وصاحب الحال هو أكثرهم .

ولما كان الفريق ينطلق على القليل والكثير ، وأسند النبذ إليه ، كان فيما يتبادر إليه الذهن أنه يحتمل أن يكون النابذون قليلاً ، فبين أن النابذين هم الأكثر ، وصار ذكر الأكثر دليلاً على أن الفريق هنا لا يراد به اليسير منهم ، فكان هذا إضراباً عما يحتمله لفظ الفريق من دلالته على القليل .

والضمير في أكثرهم عائد على الفريق ، أو على جميع بني إسرائيل .

وعلى كلا الاحتمالين ، ذكر الأكثر محكوماً عليه بالنبذ ، أو بعدم الإيمان ، لأن بعضهم آمن ، ومن آمن فما نبذ العهد .

وأجمع المسلمون على أن من كفر بآية من كتاب الله ، أو نقض عهد الله الذي أخذه على عباده في كتبه ، فهو كافر .

/خ103