البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (137)

الشقاق : مصدر شاقه ، كما تقول : ضارب ضراباً ، وخالف خلافاً ، ومعناه : المعاداة والمخالفة ، وأصله من الشق ، أي صار هذا في شق ، وهذا في شق .

والشق : الجانب ، كما قال الشاعر :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحوّل

وقيل : هو من المشقة ، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه .

الكفاية : الأحساب .

كفاني كذا : أي أحسبني ، قال الشاعر :

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال

أي أغناني قليل من المال .

فلما سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا .

وقالت النصارى : إن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ، ولكنه ابن الله تعالى ، فأنزل الله : { فإن آمنوا } الآية .

والضمير في آمنوا عائد على من عاد عليه في قوله : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى } .

ويجوز أن يكون الخطاب خاصاً ، والمراد به العموم ، ويجوز أن يكون عائداً على كل كافر ، فيفسره المعنى .

وقرأ الجمهور : { بمثل ما آمنتم به } .

وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس : بما آمنتم به .

وقرأ أُبيّ : بالذي آمنتم به ، وقال ابن عباس : ليس لله مثل .

وهذا يدل على إقرار الباء على حالها في آمنت بالله ، وإطلاق على ما على الله تعالى .

كما ذهب إليه بعضهم في قوله : { والسماء وما بناها } يريد ومن بناها على قوله .

وقراءة أبيّ ظاهرة ، ويشمل جميع ما آمن به المؤمنون .

وأما قراءة الجمهور ، فخرجت الباء على الزيادة ، والتقدير : إيماناً مثل إيمانكم ، كما زيدت في قوله : { وهزّي إليك بجذع النخلة }

وسود المحاجر لا يقرأن بالسور***

{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وتكون ما مصدرية .

وقيل : ليست بزائدة ، وهي بمعنى على ، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به ، وكون الباء بمعنى على ، قد قيل به ، وممن قال به ابن مالك ، قال ذلك في قوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } أي على قنطار .

وقيل : هي للاستعانة ، كقولك : عملت بالقدوم ، وكتبت بالقلم ، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم ، وذلك فرار من زيادة الباء ، لأنه ليس من أماكن زيادة الباء قياساً .

والمؤمن به على هذه الأوجه الثلاثة محذوف ، التقدير : فإن آمنوا بالله ، ويكون الضمير في به عائداً على ما عاد عليه قوله : { ونحن له } ، وهو الله تعالى .

وقيل : يعود على ما ، وتكون إذ ذاك موصولة .

وأما مثل ، فقيل : زائدة ، والتقدير : فإن آمنوا بما آمنتم به ، قالوا : كهي في قوله : { ليس كمثله شيء } أي ليس كهو شيء ، وكقوله :

فصيروا مثل كعصف مأكول***

وكقوله :

يا عاذلي دعني من عذلكا***مثلي لا يقبل من مثلكا

وقيل : ليست بزائدة .

والمثلية هنا متعلقة بالاعتقاد ، أي فإن اعتقدوا مثل اعتقادكم ، أو متعلقة بالكتاب ، أي فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به .

والمعنى : فإن آمنوا بكتابكم المماثل لكتابهم ، أي فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا التأويل ، لا تكون الباء زائدة ، بل هي مثلها في قوله : آمنت بالكتاب .

وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، يقول : هذا أمر لا يفعله مثلك ، أي لا تفعله أنت .

والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، وهذا يؤول إلى إلغاء مثل ، وزيادتها من حيث المعنى .

وقال الزمخشري : بمثل ما آمنتم به من باب التبكيت ، لأن دين الحق واحد ، لا مثل له ، وهو دين الإسلام .

{ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً ، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له ، كانوا مهتدين ، فقيل : فإن آمنوا بكلمة الشك ، على سبيل العرض ، والتقدير : أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ، مساوياً له في الصحة والسداد .

{ فقد اهتدوا } : وفيه أن دينهم الذي هم عليه ، وكل دين سواه مغاير له غير مماثل ، لأنه حق وهدى ، وما سواه باطل وضلال ، ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه ، فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه .

انتهى كلامه ، وهو حسن .

وجواب الشرط قوله : { فقد اهتدوا } ، وليس الجواب محذوفاً ، كهو في قوله : { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل } لمعنى تكذيب الرسل قطعاً ، واستقبال الهداية هنا ، لأنها معلقة على مستقبل ، ولم تكن واقعة قبل .

{ وإن تولوا } : أي إن أعرضوا عن الدخول في الإيمان .

{ فإنما هم في شقاق } : أكد الجملة الواقعة شرطاً بأن ، وتأكد معنى الخبر بحيث صار ظرفاً لهم ، وهم مظروفون له .

فالشقاق مستول عليهم من جميع جوانبهم ، ومحيط بهم إحاطة البيت بمن فيه .

وهذه مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي ، وهذا كقوله : { إنا لنراك في ضلال مبين } { إنا لنراك في سفاهة } هو أبلغ من قولك : زيد مشاق لعمرو ، وزيد ضال ، وبكر سفيه .

والشقاق هنا : الخلاف ، قاله ابن عباس ، أو العداوة ، أو الفراق ، أو المنازعة ، قاله زيد بن أسلم ، أو المجادلة ، أو الضلال والاختلاف ، أو خلع الطاعة ، قاله الكسائي ؛ أو البعاد والفراق إلى يوم القيامة .

وهذه تفاسير للشقاق متقاربة المعنى .

وقد ذكرنا مدار ذلك في المفردات على معنيين : إما من المشقة ، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق ، أي يقع بينهم خلاف .

قال القاضي : ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق ، لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ، وهذا وعيد لهم . انتهى .

{ فسيكفيكهم الله } : لما ذكر أن توليهم يترتب عليه الشقاق ، وهو العداوة العظيمة ، أخبر تعالى أن تلك العداوة لا يصلون إليك بشيء منها ، لأنه تعالى قد كفاه شرهم .

وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله ، كفايته ومنعه منهم ، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه ، وغلبته إياهم ، لأن من كان مشاقاً لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك ، إذا لم يتوصل إلى ذلك ، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه ، وهذا نظير قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع ، والنفي في بني النضير ، والجزية في نصارى نجران .

وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم ، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال ، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف ، والذوات ليست المكفية ، فهو على حذف مضاف ، أي فسيكفيك شقاقهم ، والمكفى به محذوف ، أي بمن يهديه الله من المؤمنين ، أو بتفريق كلمة المشاقين ، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية ، كما بيناه .

{ وهو السميع العليم } ، مناسبة هاتين الصفتين : أن كلاً من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال ، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال ، فناسب أن يختتم ذلك بهما ، أي وهو السميع لأقوالكم ، العليم بنياتكم واعتقادكم .

ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن ، قدّمت صفة السميع على العليم ، ولأن العليم فاصلة أيضاً .

وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد ، لأن المعنى ، وهو السميع العليم ، فيجازيكم بما يصدر منكم .

/خ141