الشقاق : مصدر شاقه ، كما تقول : ضارب ضراباً ، وخالف خلافاً ، ومعناه : المعاداة والمخالفة ، وأصله من الشق ، أي صار هذا في شق ، وهذا في شق .
والشق : الجانب ، كما قال الشاعر :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحوّل
وقيل : هو من المشقة ، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه .
كفاني كذا : أي أحسبني ، قال الشاعر :
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال
فلما سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا .
وقالت النصارى : إن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ، ولكنه ابن الله تعالى ، فأنزل الله : { فإن آمنوا } الآية .
والضمير في آمنوا عائد على من عاد عليه في قوله : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى } .
ويجوز أن يكون الخطاب خاصاً ، والمراد به العموم ، ويجوز أن يكون عائداً على كل كافر ، فيفسره المعنى .
وقرأ الجمهور : { بمثل ما آمنتم به } .
وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس : بما آمنتم به .
وقرأ أُبيّ : بالذي آمنتم به ، وقال ابن عباس : ليس لله مثل .
وهذا يدل على إقرار الباء على حالها في آمنت بالله ، وإطلاق على ما على الله تعالى .
كما ذهب إليه بعضهم في قوله : { والسماء وما بناها } يريد ومن بناها على قوله .
وقراءة أبيّ ظاهرة ، ويشمل جميع ما آمن به المؤمنون .
وأما قراءة الجمهور ، فخرجت الباء على الزيادة ، والتقدير : إيماناً مثل إيمانكم ، كما زيدت في قوله : { وهزّي إليك بجذع النخلة }
وسود المحاجر لا يقرأن بالسور***
{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وتكون ما مصدرية .
وقيل : ليست بزائدة ، وهي بمعنى على ، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به ، وكون الباء بمعنى على ، قد قيل به ، وممن قال به ابن مالك ، قال ذلك في قوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } أي على قنطار .
وقيل : هي للاستعانة ، كقولك : عملت بالقدوم ، وكتبت بالقلم ، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم ، وذلك فرار من زيادة الباء ، لأنه ليس من أماكن زيادة الباء قياساً .
والمؤمن به على هذه الأوجه الثلاثة محذوف ، التقدير : فإن آمنوا بالله ، ويكون الضمير في به عائداً على ما عاد عليه قوله : { ونحن له } ، وهو الله تعالى .
وقيل : يعود على ما ، وتكون إذ ذاك موصولة .
وأما مثل ، فقيل : زائدة ، والتقدير : فإن آمنوا بما آمنتم به ، قالوا : كهي في قوله : { ليس كمثله شيء } أي ليس كهو شيء ، وكقوله :
يا عاذلي دعني من عذلكا***مثلي لا يقبل من مثلكا
والمثلية هنا متعلقة بالاعتقاد ، أي فإن اعتقدوا مثل اعتقادكم ، أو متعلقة بالكتاب ، أي فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به .
والمعنى : فإن آمنوا بكتابكم المماثل لكتابهم ، أي فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا التأويل ، لا تكون الباء زائدة ، بل هي مثلها في قوله : آمنت بالكتاب .
وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، يقول : هذا أمر لا يفعله مثلك ، أي لا تفعله أنت .
والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، وهذا يؤول إلى إلغاء مثل ، وزيادتها من حيث المعنى .
وقال الزمخشري : بمثل ما آمنتم به من باب التبكيت ، لأن دين الحق واحد ، لا مثل له ، وهو دين الإسلام .
{ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً ، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له ، كانوا مهتدين ، فقيل : فإن آمنوا بكلمة الشك ، على سبيل العرض ، والتقدير : أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ، مساوياً له في الصحة والسداد .
{ فقد اهتدوا } : وفيه أن دينهم الذي هم عليه ، وكل دين سواه مغاير له غير مماثل ، لأنه حق وهدى ، وما سواه باطل وضلال ، ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه ، فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه .
وجواب الشرط قوله : { فقد اهتدوا } ، وليس الجواب محذوفاً ، كهو في قوله : { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل } لمعنى تكذيب الرسل قطعاً ، واستقبال الهداية هنا ، لأنها معلقة على مستقبل ، ولم تكن واقعة قبل .
{ وإن تولوا } : أي إن أعرضوا عن الدخول في الإيمان .
{ فإنما هم في شقاق } : أكد الجملة الواقعة شرطاً بأن ، وتأكد معنى الخبر بحيث صار ظرفاً لهم ، وهم مظروفون له .
فالشقاق مستول عليهم من جميع جوانبهم ، ومحيط بهم إحاطة البيت بمن فيه .
وهذه مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي ، وهذا كقوله : { إنا لنراك في ضلال مبين } { إنا لنراك في سفاهة } هو أبلغ من قولك : زيد مشاق لعمرو ، وزيد ضال ، وبكر سفيه .
والشقاق هنا : الخلاف ، قاله ابن عباس ، أو العداوة ، أو الفراق ، أو المنازعة ، قاله زيد بن أسلم ، أو المجادلة ، أو الضلال والاختلاف ، أو خلع الطاعة ، قاله الكسائي ؛ أو البعاد والفراق إلى يوم القيامة .
وهذه تفاسير للشقاق متقاربة المعنى .
وقد ذكرنا مدار ذلك في المفردات على معنيين : إما من المشقة ، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق ، أي يقع بينهم خلاف .
قال القاضي : ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق ، لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ، وهذا وعيد لهم . انتهى .
{ فسيكفيكهم الله } : لما ذكر أن توليهم يترتب عليه الشقاق ، وهو العداوة العظيمة ، أخبر تعالى أن تلك العداوة لا يصلون إليك بشيء منها ، لأنه تعالى قد كفاه شرهم .
وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله ، كفايته ومنعه منهم ، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه ، وغلبته إياهم ، لأن من كان مشاقاً لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك ، إذا لم يتوصل إلى ذلك ، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه ، وهذا نظير قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع ، والنفي في بني النضير ، والجزية في نصارى نجران .
وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم ، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال ، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف ، والذوات ليست المكفية ، فهو على حذف مضاف ، أي فسيكفيك شقاقهم ، والمكفى به محذوف ، أي بمن يهديه الله من المؤمنين ، أو بتفريق كلمة المشاقين ، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية ، كما بيناه .
{ وهو السميع العليم } ، مناسبة هاتين الصفتين : أن كلاً من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال ، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال ، فناسب أن يختتم ذلك بهما ، أي وهو السميع لأقوالكم ، العليم بنياتكم واعتقادكم .
ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن ، قدّمت صفة السميع على العليم ، ولأن العليم فاصلة أيضاً .
وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد ، لأن المعنى ، وهو السميع العليم ، فيجازيكم بما يصدر منكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.