البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{صِبۡغَةَ ٱللَّهِ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبۡغَةٗۖ وَنَحۡنُ لَهُۥ عَٰبِدُونَ} (138)

والصبغ : المصبوغ به ، والصبغ : المصدر ، وهو تغيير الشيء بلون من الألوان ، وفعله على فعل بفتح العين ، ومضارعه المشهور فيه يفعل بضمها ، والقياس الفتح إذ لامه حرف حلق .

وذكر لي عن شيخنا أبي العباس أحمد بن يوسف بن علي الفهري ، عرف بالليلى ، وهو شارح الفصيح ، أنه ذكر فيه صنم الباء في المضارع والفتح والكسر .

{ صبغة الله } : أي دين الله ، قاله ابن عباس وسمي صبغة لظهور أثر الدين على صاحبه ، كظهور أثر الصبغ على الثوب ، ولأنه يلزمه ولا يفارقه ، كالصبغ في الثوب ، أو فطرة الله ، قاله مجاهد ومقاتل ؛ أو خلقة الله ، قاله الزجاج وأبو عبيد ؛ أو سنة الله ، قاله أبو عبيدة ؛ أو الإسلام ، قاله مجاهد أيضاً ؛ أو جهة الله يعني القبلة ، قاله ابن كيسان ؛ أو حجة الله على عباده ، قاله الأصم : أو الختان ، لأنه يصبغ صاحبه بالدم .

والنصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء يقال له المعمودية ، فيتطهر عندهم ويصير نصرانياً .

استغنوا به عن الختان ، فردّ الله عليهم بقوله : { صبغة الله } ، أو الاغتسال للدّخول في الإسلام عوضاً عن ماء المعمودية ، حكاه الماوردي ؛ أو القربة إلى الله ، حكاه ابن فارس في المجمل ؛ أو التلقين ، يقال : فلان يصبغ فلاناً في الشيء ، أي يدخله فيه ويلزمه إياه ، كما يجعل الصبغ لازماً للثوب .

وهذه أقوال متقاربة ، والأقرب منها هو الدين والملة ، لأن قبله : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية .

وقد تضمنت هذه الآية أصل الدين الحنيفي ، فكنى بالصبغة عنه ، ومجازه ظهور الأثر ، أو ملازمته لمن ينتحله .

فهو كالصبغ في هذين الوصفين ، كما قال .

وكذلك الإيمان ، حين تخالط بشاشة القلوب .

والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء ، واتصافه به صبغة .

قال بعض شعراء ملوكهم :

وكل أناس لهم صبغة *** وصبغة همدان خير الصبغ

صبغنا على ذاك أبناءنا *** فأكرم بصبغتنا في الصبغ

وقد روي عن ابن عباس أن الأصل في تسمية الدين صبغة : أن عيسى حين قصد يحيى بن زكريا فقال : جئت لأصبغ منك ، وأغتسل في نهر الأردن .

فلما خرج ، نزل عليه روح القدس ، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم ، تشبيهاً بعيسى ، ويقولون : الآن صار نصرانياً حقاً .

وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ .

ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم : المعمودية ، بالدال ، ويقال : المعمورية بالراء .

قال : ويسمون ذلك الفعل التغميس ، ومنهم من يسميه الصبغ ، فردّ الله ذلك بقوله : { صبغة الله } .

وقال الراغب : الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم ، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة .

وسمي ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان ، إذا اعتبرت ، جرت مجرى الصبغة في المصبوغ ، ولما كانت النصارى ، إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون : نصرناه ، فقال : إن الإيمان بمثل ما آمنتم به صبغة الله .

وقرأ الجمهور : صبغة الله بالنصب ، ومن قرأ برفع ملة ، قرأ برفع صبغة ، قاله الطبري .

وقد تقدّم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة .

فأما النصب ، فوجه على أوجه ، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : { قولوا آمنا بالله } .

وقيل : عن قوله : { ونحن له مسلمون } .

وقيل : عن قوله : { فقد اهتدوا } وقيل : هو نصب على الإغراء ، أي الزموا صبغة الله .

وقيل : بدل من قوله : { ملةم إبراهيم } ، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله : { ونحن له عابدون } ، إلا إن قدر هناك قول ، وهو إضمار ، لا حاجة تدعو إليه ، ولا دليل من الكلام عليه .

وأما البدل ، فهو بعيد ، وقد طال بين المبدل منه والبدل بجمل ، ومثل ذلك لا يجوز .

والأحسن أن يكون منتصباً انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : { قولوا آمنا } ، فإن كان الأمر للمؤمنين ، كان المعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم يصبغ صبغتكم .

وإن كان الأمر لليهود والنصارى ، فالمعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا .

ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } إذ قبله : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } معناه : صنع الله ذلك صنعه ، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة ، كما تقول لرجل يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، يريد رجلاً يصطنع الكرم .

وأما قراءة الرفع ، فذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك الإيمان صبغة الله .

{ ومن أحسن من الله صبغة } : هذا استفهام ومعناه : النفي ، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة .

وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل ، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن ، أو يراد التفضيل ، باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسناً ، لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء .

وانتصاب صبغة هنا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ .

وقد ذكرنا أن ذلك غريب ، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزاً نقل من المبتدأ ، والتقدير : ومن صبغته أحسن من صبغة الله .

فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين ، لا بين الصابغين .

{ ونحن له عابدون } : متصل بقوله : { آمنا بالله } ، ومعطوف عليه .

قال الزمخشري : وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة ، أو نصب على الإغراء ، بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه .

وانتصابها يعني : صبغة الله على أنها مصدر مؤكد ، هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حذام . انتهى .

وتقديره : في الإغراء عليكم صبغة الله ليس بجيد ، لأن الإغراء ، إذ كان بالظرف والمجرور ، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور ، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه بالزموا صبغة الله .

وتقدم الكلام على العبادة في قوله : { إياك نعبد } وأما هنا فقيل : عابدون موحدون ، ومنه : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي ليوحدون .

وقيل : مطيعون متبعون ملة إبراهيم وصبغة الله .

وقيل : خاضعون مستكينون في اتباع ملة إبراهيم ، غير مستكبرين ، وهذه أقوال متقاربة .

/خ141