البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱنتَصَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْۗ وَسَيَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ} (227)

ولما كان ما سبق ذماً للشعراء ، واستثنى منهم من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والإكثار من ذكر الله ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ؛ وإذا نظموا شعراً كان في توحيد الله والثناء عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه ، والموعظة والزهد والآداب الحسنة وتسهيل علم ، وكل ما يسوغ القول فيه شرعاً فلا يتلطخون في قوله بذنب ولا منقصة .

والشعر باب من الكلام ، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح .

وقال رجل علوي لعمرو بن عبيد : إن صدري ليجيش بالشعر ، فقال : ما يمنعك منه فيما لا بأس به .

وقيل : المراد بالمستثنين : حسان ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وكعب بن زهير ، ومن كان ينافخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال عليه السلام لكعب بن مالك :

« اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل » وقال لحسان : « قل وروح القدس معك » ، وهذا معنى قوله : { وانتصروا } : أي بالقول فيمن ظلمهم .

وقال عطاء بن يسار وغيره : لما ذم الشعراء بقوله : { والشعراء } الآية ، شق ذلك على حسان وابن رواحة وكعب بن مالك ، وذكروا ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام ، فنزلت آية الاستثناء بالمدينة ، وخص ابن زيد قوله : { وذكروا الله كثيراً } ، فقال : أي في شعرهم .

وقال ابن عباس : صار خلقاً لهم وعادة ، كما قال لبيد ، حين طلب منه شعرة : إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيراً منه .

ولما ذكر : { وانتصروا من بعد ما ظلموا } ، توعد الظالمين هذا التوعد العظيم الهائل الصادع للأكباد وأبهم في قوله : { أي منقلب ينقلبون } .

ولما عهد أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ، تلا عليه : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } ، وكان السلف الصالح يتواعظون بها .

والمفهوم من الشريعة أن الذين ظلموا هم الكفار .

وقال الزمخشري : وتفسير الظلم بالكفر تعليل ، وكان ذكر قبل أن الذين ظلموا مطلق ، وهذا منه على طريق الاعتزال .

وقرأ ابن عباس ، وابن أرقم ، عن الحسن : أي منفلت ينفلتون ، بفاء وتاءين ، معناه : إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله ، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات ، وهو النجاة .

{ وسيعلم } هنا معلقة ، وأي منقلب : استفهام ، والناصب له ينقلبون ، وهو مصدر .

والجملة في موضع المفعول لسيعلم .

وقال أبو البقاء : أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف ، والعامل ينقلبون انقلاباً ، أي منقلب ، ولا يعمل فيه يعلم ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . انتهى .

وهذا تخليط ، لأن أياً ، إذا وصف بها ، لم تكن استفهاماً ، بل أي الموصوف بها قسم لأي المستفهم بها ، لا قسم .

برأسه فأي تكون شرطية واستفهامية وموصولة ، ووصفاً على مذهب الأخفش موصوفة بنكرة نحو : مررت بأي معجب لك ، وتكون مناداة وصلة لنداء ما فيه الألف واللام نحو : يا أيها الرجل .

والأخفش يزعم أن التي في النداء موصولة .

ومذهب الجمهور أنها قسم برأسه ، والصفة تقع حالاً من المعرفة ، فهذه أقسام أي ؛ فإذا قلت : قد علمت أي ضرب تضرب ، فهي استفهامية ، لا صفة لمصدر محذوف .