البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَٰكِنَّآ أَنشَأۡنَا قُرُونٗا فَتَطَاوَلَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيٗا فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ تَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ} (45)

ثوى يثوي ثواء : أقام ، قال الشاعر :

لقد كان في حول ثواء ثويته *** تقضي لبانات ويسأم سائم

وقال العجاج : فبات حيث يدخل الثوى-   -

أي الضيف المقيم .

فإن قلت : كيف يتصل قوله : { ولكنا أنشأنا قروناً } بهذا الكلام ، ومن أي جهة يكون استدراكاً ؟ قلت : اتصاله به وكونه استدراكاً من حيث أن معناه : ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قروناً كثيرة ، فتطاول على آخرهم ، وهو القرن الذي أنت فيهم .

{ العمر } : أي أمد انقطاع الوحي ، واندرست العلوم ، فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى ، كأنه قال : وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحيناه إليك ، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة النظرة ، ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاره .

فإذن ، هذا الاستدراك شبيه للاستدراكين بعده .

{ وما كنت ثاوياً } : أي مقيماً في أهل مدين ، هم شعيب والمؤمنون .

{ تتلوا عليهم آياتنا } : تقرأ عليهم تعلماً منهم ، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه .

ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها .

وقيل : { فتطاول عليهم العمر } ، وفترت النبوة ، ودرست الشرائع ، وحرف كثير منها ؛ وتمام الكلام مضمر تقديره : وأرسلناك مجدداً لتلك الأخبار ، مميزاً للحق بما اختلف فيه منها ، رحمة منا .

وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : وما كنت من الشاهدين في ذلك الزمان ، وكانت بينك وبين موسى قرون تطاولت أعمارهم ، وأنت تخبر الآن عن تلك الأحوال أخبار مشاهدة وعيان بإيحائنا ، معجزة لك .

وقيل : تتلو حال ، وقيل : مستأنف ، أي أنت الآن تتلو قصة شعيب ، ولكنا أرسلناك رسولاً ، وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار المنسية تتلوها عليهم ، ولولاك ما أخبرتهم بما لم يشاهدوه .

وقال الفراء : { وما كنت عليهم } في أهل مدين مع موسى ، فتراه وتسمع كلامه ، وها أنت { تتلوا عليهم آياتنا } : أي على أمتك ، فهو منقطع . انتهى .

قيل : وإذا لم يكن حاضراً في ذلك المكان ، فما معنى : { وما كنت من الشاهدين } ؟ فقال ابن عباس : التقدير : لم تحضر ذلك الموضع ، ولو حضرت ، فما شاهدت تلك الوقائع ، فإنه يجوز أن يكون هناك : ولا يشهد ولا يرى .

وقال مقاتل : لم يشهد أهل مدين فيقرأ على أهل مكة خبرهم ، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة ، وأنزلنا إليك هذه الأخبار ، ولولا ذلك ما علمت .

وقال الضحاك : يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين ، تتلو عليهم آيات الكتاب ، وإنما كان غيرك ، ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً ، فأرسلنا إلى مدين شعيباً ، وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء . انتهى .