الغزو القصد وكذلك المغزى ، ثم أطلق على قصد مخصوص وهو : الإيقاع بالعدو .
وتقول : غزا بني فلان ، أوقع بهم القتل والنهب وما أشبه ذلك .
أجرى جمع فاعل الصفة من المعتل اللام مجرى صحيحها ، كركع وصوام .
ويقال : أغزت الناقة عسر لقاحها .
وأتان مغزية تأخر نتاجها ثم تنتج .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزًى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } لما تقدم من قول المنافقين : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ، وأخبر الله عنهم أنهم قالوا لإخوانهم : وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ، وكان قولاً باطلاً واعتقاداً فاسداً نهى تعالى المؤمنين أنْ يكونوا مثلهم في هذه المقالة الفاسدة والاعتقاد السيىء .
وهو أن من سافر في تجارة ونحوها فمات ، أو قاتل فقتل ، لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، والكفار القائلون .
قيل : هو عام ، أي اعتقاد الجميع هذا قاله : ابن إسحاق وغيره ، أو عبد الله بن أبي وأصحابه سمع منهم هذا القول قاله : مجاهد والسدي وغيرهما ، أو هو ومعتب وجدّ بن قيس وأصحابهم .
واللام في : لإخوانهم لام السبب ، أي لأجل إخوانهم .
وليست لام التبليغ ، نحو : قلت لك .
والإخوة هنا إخوة النسب ، إذ كان قتلى أحد من الأنصار وأكثرهم من الخزرج ، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعة .
ويكون القائلون منافقي الأنصار جمعهم أب قريب ، أو بعيد ، أو إخوة المعتقد والتآلف ، كقوله : { فأصبحتم بنعمته إخواناً } وقال :
صفحنا عن بني ذهل *** وقلنا القوم إخوان
والضرب في الأرض : الإبعاد فيها ، والذهاب لحاجة الإنسان .
وقال السدي : الضرب هنا السير في التجارة .
وقال ابن إسحاق : السير في الطاعات .
وقالوا : ماض ، فلا يمكن أن يعمل فيه .
فمنهم من جرده عن الاستقبال وجعله لمطلق الوقت بمعنى حين ، فاعمل فيه قال : وقال ابن عطية : دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم في إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف قيل إذا ضربوا في الأرض مع قالوا ؟ ( قلت ) : هو حكاية الحال الماضية ، كقولك : حين تضربون في الأرض انتهى كلامه .
ويمكن إقرار إذا على ما استقر لها من الاستقبال ، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف ، وهو لا بدّ من تقدير مضاف غاية ما فيه أنّا نقدره مستقبلاً حتى يعمل في الظرف المستقبل ، لكنْ يكون الضمير في قوله : لو كانوا عائداً على إخوانهم لفظاً ، وعلى غيرهم معنى ، مثل قوله تعالى : { وما يعمّر من معمر ولا ينقص من عمره } وقول العرب : عندي درهم ونصفه .
قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا *** إلى حمامتنا ونصفه فقد
المعنى : من معمر آخر ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخر ، ونصف حمام آخر ، فعاد الضمير على درهم والحمام لفظاً لا معنى .
كذلك الضمير في قوله : لو كانو ، يعود على إخوانهم لفظاً .
والمعنى : لو كان إخواننا الآخرون .
ويكون معنى الآية : وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كان إخواننا الآخرون الذين تقدّم موتهم وقتلهم عندنا أي مقيمين لم يسافروا ما ماتوا وما قتلوا ، فتكون هذه المقالة تثبيطاً لإخوانهم الباقين عن الضرب في الأرض وعن الغزو ، وإيهاماً لهم أنْ يصيبهم مثل ما أصاب إخوانهم الآخرين الذين سبق موتهم وقتلهم بالضرب في الأرض والغزو ، ويكون العامل في إذا هلاك وهو مصدر ينحل بأنْ والمضارع ، أي مخافة أن يهلك إخوانهم الباقون إذا ضربوا في الأرض ، أو كانوا غزاً .
وهذا أبلغ في المعنى إذ عرضوا للأحياء بالإقامة لئلا يصيبهم ما أصاب من مات أو قتل .
قالوا : ويجوز أنْ يكون وقالوا في معنى .
ويقولون : وتعمل في إذا ، ويجوز أن يكون إذا بمعنى إذ فيبقى ، وقالوا على مضيه .
وفي الكلام إذ ذاك حذف تقديره : إذا ضربوا في الأرض فماتوا ، أو كانوا غزاً فقتلوا .
وما أجهل مَنْ يدعي أنّه لولا الضربُ في الأرض والغزو وترك القعود في الوطن لما مات المسافر ولا الغازي ، وأين عقل هؤلاء من عقل أبي ذؤيب على جاهليته حيث يقول :
يقولون لي : لو كان بالرمل لم يمت *** نسيبة والطرّاق يكذب قيلها
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت *** إليه المنايا عينها ، ورسولها
قال الرازي : وذكر الغزو بعد الضرب ، لأن من الغزو ما لا يكون ضرباً ، لأن الضرب الإبعاد ، والجهاد قد يكون قريب المسافة ، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب انتهى .
يعني : أَنّ بينهما عموماً وخصوصاً فتغايراً ، فصح إفراده ، إذ لم يندرج من جهة تحته .
وقيل : لا يفهم الغزو من الضرب ، وإنما قدم لكثرته كما قال تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } وقرأ الجمهور غزاً بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي .
ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفاً ، وعلى حذف التاء ، والمراد : غزاة .
وقال بعض من وجهٍ على أنّه حُذف التاء وهو : ابن عطية ، قال : وهذا الحذف كثير في كلامهم ، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي :
أبى الذمّ أخلاق الكسائي وانتحى *** به المجد أخلاق الأبوّ السوابق
جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوّة جمع ابن .
وقوله : وهذا الحذف كثير في كلامهم ليس كما ذكر ، بل لا يوجد مثل رام ورمى ، ولا حام وحمى ، يريد : رماة وحماة .
وإنْ أراد حذف التاء من حيث الجملة كثير في كلامهم فالمدعي إنما هو الحذف من فعله ، ولا نقول أنَّ الحذف أعني حذف التاء كثيرٌ في كلامهم ، لأنه يشعر أن بناء الجمع جاء عليها ، ثم حذفت كثيراً وليس كذلك ، بل الجمع جاء على فعول نحو : عم وعموم ، وفحل وفحول ، ثم جيء بالتاء لتأكيد معنى الجمع ، فلا نقول في عموم : أنه حذفت منه التاء كثيراً لأن الجمع لم يبن عليها ، بخلاف قضاة ورماة فإن الجمع بني عليها .
وإنما تكلف النحويون لدخولها فيما كان لا ينبغي أن تدخل فيه ، إنَّ ذلك على سبيل تأكيد الجمع ، لمَّا رأوا زائداً لا معنى له ذكروا أنّه جاء بمعنى التوكيد ، كالزوائد التي لا يفهم لها معنى غير التأكيد .
وأمّا البيت فالذي يقوله النحويون فيه : أنه مما شذ جمعه ولم يعل ، فيقال فيه : أبى كما قالوا : عصى في عصا ، وهو عندهم جمع على فعول ، وليس أصله أبوه .
ولا يجمع ابن على بنوّة ، وإنما هما مصدران .
والجملة من لو وجوابها هي معمول القول فهي في موضع نصب على المفعول ، وجاءت على نظم ما بعد إذا من تقديم نفي الموت على نفي القتل ، كما قدم الضرب على الغزو .
والضمير في : لو كانوا ، هو لقتلى أحد ، قاله : الجمهور .
أو للسرية الذين قتلوا ببئر معونة قاله : بكر بن سهل الدمياطي .
وقرأ الجمهور : وما قتلوا بتخفيف التاء .
وقرأ الحسن : بتشديدها للتكثير في المحال ، لا بالنسبة إلى محل واحد ، لأنه لا يمكن التكثير فيه .
{ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } اختلفوا في هذه اللام فقيل : هي لام كي .
فإذا كانت لام كي فبماذا تتعلق ، ولماذا يشار بذلك ؟ فذهب بعضهم : إلى أنّها تتعلق بمحذوف يدل عليه معنى الكلام وسياقه ، التقدير : أوقع ذلك ، أي القول والمعتقد في قلوبهم ليجعله حسرة عليهم .
وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال : لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله حسرة في قلوبهم ، فلا يصح ذلك أن يكون تعليلاً لقولهم ، وإنما قالوا ذلك تثبيطاً للمؤمنين عن الجهاد .
ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو : لا يكونوا كالذين كفروا .
لأن جعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم ، لا يكون سبباً لنهي الله المؤمنين عن مماثلة الكفار .
قال الزمخشري : وقد أورد سؤالاً على ما تتعلق به ليجعل ، قال : أو لا يكونوا بمعنى : لا يكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ، ويصون منها قلوبكم انتهى كلمه .
وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ، لأن جعل الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا ، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي وهو : انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه .
فلا تضربوا في الأرض ولا تغزوا ، فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفهم هذا فيه خفاء ودقة .
وقال ابن عيسى وغيره : اللام متعلقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم دونكم انتهى .
ومنه أخذ الزمخشري قوله : لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص .
وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا ، والمعنى : أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة ، إنما قالوا ذلك لعلة ، فصار مآل ذلك إلى الحسرة والندامة ، ونظروه بقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، ولم يلتقطوه لذلك ، إنما آل أمره إلى ذلك .
وأكثر أصحابنا لا يثبتون للام هذا المعنى أعني أن تكون اللام للعاقبة والمآل وينسبون هذا المذهب للأخفش .
وأما الإِشارة بذلك فقال الزجاج : هو إشارة إلى الظن ، وهو أنهم إذا ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا ، كان حسرتهم على من قتل منهم أشدّ .
وقال الزمخشري : ما معناه الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول .
وقال ابن عطية : الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي يتيقن أن كل موت وقتل بأجل سابق يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت يتحسر ويتلهف انتهى .
وهذه أقوال متوافقة فيما أشير بذلك إليه .
وقيل : الإِشارة بذلك إلى نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد ، لأنهم إذا رأوا أن الله قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم .
وقال ابن عطية : ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله انتهى .
وهذه كلها أقوال تخالف الظاهر .
والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإشارة إلى المصدر المفهوم من قالوا ، وأن اللام للصيرورة ، والمعنى : أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والإبعاد في الأرض ، سواء كانوا معتقدين صحتها أو لم يكونوا معتقديها ، إذْ كثير من الكفار قائل بأجل واحد ، فخاب هذا القصد ، وجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم أي غماً على ما فاتهم ، إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد .
وظاهر جعل الحسرة وحصولها أنه يكون ذلك في الدنيا وهو الغم الذي يلحقهم على ما فات من بلوغ مقصدهم .
وقيل : الجعل يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة ، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة .
وأسند الجعل إلى الله ، لأنه هو الذي يضع الغم والحسرة في قلوبهم عقوبة لهم على هذا القول الفاسد .
{ والله يحيي ويميت } رد عليهم في تلك المقالة الفاسدة ، بل ذلك بقضائه الحتم والأمر بيده .
قد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد .
وقال خالد بن الوليد عنه موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء .
وقيل : هذه الجملة متعلقة بقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا } أي : لا تقولوا مثل قولهم ، فإن الله هو المحيي ، من قدر حياته لم يقتل في الجهاد ، والمميت من قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد ، قاله : الرازي .
وقال أيضاً : المراد منه إبطال شبهتهم ، أي لا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، لأن قضاءه لا يتبدل .
ولا يلزم ذلك في الأعمال ، لأنَّ له أن يفعل ما يشاء انتهى .
ورد عليه هذا الفرق بين الموت والحياة وسائر الأعمال ، لأن سائر الأعمال مفروغ منها كالموت والحياة ، فما قدر وقوعه منها فلا بدّ من وقوعه ، وما لم يقدر فيستحيل وقوعه ، فإذاً لا فرق .
{ والله بما تعملون بصير } قال الراغب : علق ذلك بالبصر لا بالسمع ، وإنْ كان الصادر منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً .
لما كان ذلك القول من الكافر قصداً منهم إلى عمل يحاولونه ، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئاً وهو يقصد فعلاً يحاوله : أنا أرى ما تفعله .
وقرأ ابن كثير والأخوان بما يعملون بالياء على الغيبة ، وهو وعيد للمنافقين .
وقرأ الباقون بالتاء على خطاب المؤمنين ، كما قال : لا تكونوا ، فهو توكيد للنهي ووعيد لمن خالف ، ووعد لمن امتثل .