البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

النعاس : النوم الخفيف .

يقال : نعس ينعس نعاساً فهو ناعس ، ولا يقال : نعسان .

وقال الفراء : قد سمعتها ولكني لا أشتهيها .

المضجع : المكان الذي يتكأ فيه للنوم ، ومنه : { واهجروهن في المضاجع } والمضاجع : المصارع ، وهي أماكن القتل ، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها .

{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً } الأمنة : الأمن ، قاله : ابن قتيبة وغيره .

وفرق آخرون فقالوا : الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف ، والأمن يكون مع زوال أسبابه .

وقرأ الجمهور : أمنة بفتح الميم ، على أنه بمعنى الأمن .

أو جمع آمن كبار وبرره ، ويأتي إعرابه .

وقرأ النخعي وابن محيصن : أمْنة بسكون الميم ، بمعنى الأمن .

ومعنى الآية : امتنان الله عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم ، بحيث صاروا من الأمن ينامون .

وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام .

ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة : والزبير ، وابن مسعود .

واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس .

فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي وكان من المتحيزين إليه : « إذهب فانظر إلى القوم فإنْ كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة فاتقوا الله واصبروا » ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع فأخبر : أنهم جنبوا الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألقى الله تعالى عليهم النعاس .

وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أنّ أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية .

وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته .

وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك .

قال تعالى { فأثابكم غماً بغم } .

والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم .

والجمع بين هذين القولين : أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرّحيل إلى مكة ، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون .

والفاعل بأنزل ضمير يعود على الله تعالى ، وهو معطوف على فأثابكم .

وعليكم يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الإجرام .

وأعربوا أمنة مفعولاً بأنزل ، ونعاساً بدل منه ، وهو بدل اشتمال .

لأن كلاًّ منهما قد يتصور اشتماله على الآخر ، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك .

أو عطف بيان ، ولا يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف .

أو مفعول من أجله وهو ضعيف ، لاختلال أحد الشروط وهو : اتحاد الفاعل ، ففاعل الإنزال هو الله تعالى ، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم ، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين .

وقيل : نعاساً هو مفعول أنزل ، وأمنة حال منه ، لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال .

التقدير : نعاساً ذا أمنة ، لأن النعاس ليس هو إلا من .

أو حال من المجرور على تقدير : ذوي أمنة .

أو على أنه جمع آمن ، أي آمنين ، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله : الزمخشري ، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاساً مفعولاً من أجله .

{ يغشى طائفة منكم } هم المؤمنون .

ويدل هذا على أن قوله : ثم أنزل عليكم ، عام مخصوص ، لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن .

وقرأ حمزة والكسائي : تغشى بالتاء حملاً على لفظ أمنة هكذا قالوا .

وقالوا : الجملة في موضع الصفة ، وهذا ليس بواضح ، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت .

فمن أعرب نعاساً بدلاً أو عطف بيان لا يتم له ذلك ، لأنه مخالف لهذه القاعدة ، ومن أعربه مفعولاً من أجله ففيه أيضاً الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة .

وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو : اتحاد الفاعل .

فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل : ما حكم هذه الأمنة ؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم ، جاز ذلك .

وقال ابن عطية : أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى .

لما أعرب نعاساً بدلاً من أمنة ، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه .

فإذا قلت : إن هنداً حسنها فاتن ، كان الخبر عن حسنها ، هذا هو المشهور في كلام العرب .

وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية ، واستدل على ذلك بقوله :

إن السيوف غدوها ورواحها *** تركت هوازن مثل قرن الأعضب

ويقول الآخر :

وكأنه لهق السراة كأنه *** ما حاجبيه معين بسواد

فقال : تركت ، ولم يقل تركاً .

وقال معين : ولم يقل معينان ، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف ، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي : غدوها ورواحها وحاجبيه .

وما زائدة بين المبدل منه والبدل .

ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل ، ولاحتمال أن يكون معين خبراً عن حاجبيه ، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد .

كما قال :

لمن زحلوقه زل *** بها العينان تنهل

وقال :

وكأنّ في العينين حبّ قرنفل *** أو سنبلاً كحلت به فانهلت

فقال تنهل وكحلت له ، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به .

وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين أخبار المثنى ، قال :

إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى *** بصحراء فلج ظلتا تكفان

فقال : ظلتا ولم يقل : ظلت تكف .

وقرأ الباقون : يغشى بالياء ، حمله على لفظ النعاس .

{ وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله } قال مكي : أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون ، وقالوا : غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص ، فكان سبباً لأمنهم وثباتهم .

وعرى منه أهل النفاق والشك ، فكان سبباً لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى .

ويقال : أهمني الشيء ، أي : كان من همي وقصدي .

أي : مما أهم به وأقصد .

وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم ، أي الغم .

فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم .

فقال قتادة والرّبيع وابن إسحاق وأكثرهم : هو بمعنى الغم ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل ، وهذا معنى قول الزمخشري : أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان ، فهم في التشاكي .

وقال بعض المفسرين : هو مِن هَمَّ بالشيء أراد فعله .

والمعنى : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين .

وهذا القول من قال : قد قتل محمد فلترجع إلى ديننا الأول ، ونحو هذا من الأقوال .

وقال الزمخشري في قوله : قد أهمتهم أنفسهم ، ما بهم إلا همّ أنفسهم ، لا هم الدّين ، ولا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين انتهى .

فيكون من قولهم : أهمني الشيء أي : كان من همي وإرادتي .

والمعنى : أهمهم خلاص أنفسهم خاصة ، أي : كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط ، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق ، وأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب ويزول .

ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور : المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، كما قال : { حمية الجاهلية } { ولا تبرجن تبرج الجاهلية } وكما تقول : شعر الجاهلية .

وقال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دهاقاً .

وقال بعض المفسرين : المعنى ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، ونحا إلى هذا القول : قتادة والطبري .

قال مقاتل : ظنوا أن أمره مضمحل .

وقال الزجاج : إن مدّته قد انقضت .

وقال الضحاك عن ابن عباس : ظنوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل .

وقيل : ظن الجاهلية إبطال النبوّات والشرائع .

وقيل : يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بالنصرة .

وقيل : يظنون أن الحق ما عليه الكفار ، فلذلك نصروا .

وقيل : كذبوا بالقدر .

قال الزمخشري : وظن الجاهلية كقولك : حاتم الجود ورجل صدق ، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية .

ويجوز أنْ يراد ظن أهل الجاهلية ، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله .

انتهى وظاهر قوله : هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام ؟ فقيل : سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدوّ شيء أي نصيب ؟ وأجيبوا بقوله : { قل إن الأمر كله لله } وهو النصر والغلبة .

{ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } ، { وإن جندنا لهم الغالبون } .

وقيل : المعنى ليس النصر لنا ، بل هو للمشركين .

وقال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبيّ بن سلول : قتل بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ يريد : أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا .

وهذا منهم قول بأجلين .

وذكر المهدوي وابن فورك : أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد .

ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله : قل .

فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد .

وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي .

ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله : من شيء ، جاء الكلام مؤكداً بأنَّ ، وبولغ في توكيد العموم بقوله : كله لله .

فكان الجواب أبلغ .

والخطاب بقوله : قل ، متوجه إلى الرسول بلا خلاف .

والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته ، لأنهم أجيبوا بقوله : قل إن الأمر كله لله .

ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك ، لأنّ من نفى عن نفسه أن يكون له شيء من الأمر لا يجاوب بذلك ، إلا إنْ قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم ، فكان المعنى : ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه ، فيمكن أن يكون ذلك جواباً لهذا المقدّر .

وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل التي أخبر الله بها عنهم .

والواو في قوله : وطائفة ، واو الحال .

وطائفة مبتدأ ، والجملة المتصلة به خبره .

وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان : أحدهما : واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات ، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر :

سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا *** محياك أخفى ضوؤه كل شارق

والمسوغ الثاني : أن الموضع موضع تفصيل .

إذ المعنى : يغشى طائفة منكم ، وطائفة لم يناموا ، فصار نظير قوله :

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحوّل

ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز .

ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة ، ويظنون الخبر .

ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً ، والجملتان صفتان ، التقدير : ومنكم طائفة .

ويجوز أن يكون يظنون حالاً من الضمير في أهمتهم ، وانتصاب غير الحق .

قال أبو البقاء : على أنه مفعول أول لتظنون ، أي أمراً غير الحق ، وبالله الثاني .

وقال الزمخشري : غير الحق في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله ظن الجاهلية ، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك : هذا القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك ، انتهى .

فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين ، وتكون الباء ظرفية كما تقول : ظننت بزيد .

وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين ، وإنما المعنى : جعلت مكان ظني زيداً .

وقد نص النحويون على هذا .

وعليه :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم في السائريّ المسرد

أي : اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدجج .

وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي ، أي : ظناً مثل ظن الجاهلية .

ويجوز في : يقولون أن يكون صفة ، أو حالاً من الضمير في يظنون ، أو خبراً بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده .

ومن شيء في موضع مبتدأ ، إذ من زائدة ، وخبره في لنا ، ومن الأمر في موضع الحال ، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتاً له ، فيتعلق بمحذوف .

وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر ، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى : { ولم يكن له كفواً أحد } وهذا لا يجوز : لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر ، وتقديره : أعني لنا هو جملة أخرى ، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة ، وذلك لا يجوز .

وأما تمثيله بقوله : ولم يكن له كفواً أحد فهما لا سواء ، لأن له معمول لكفواً ، وليس تبييناً .

فيكون عامله مقدراً ، والمعنى : ولم يكن أحد كفواً له ، أي مكافياً له ، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو ، فقوله : لعمرو ليس تبينناً ، بل معمولاً لضارب .

وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيداً للأمر .

وقرأ أبو عمر : وكله على أنه مبتدأ ، ويجوز أن يعرب توكيداً للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو : الجرمي ، والزجاج ، والفراء .

قال ابن عطية : ورجح الناس قراءة الجمهور ، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى .

ولا ترجيح ، إذ كل من القراءتين متواتر ، والابتداء بكل كثير في لسان العرب .

{ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } قيل : معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة .

ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات .

وقيل : الذي أخفوه قولهم : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا .

وقيل : الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد .

{ يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا .

ومعتب هذا شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وكان مغموصاً عليه بالنفاق .

والمعنى : ما قتل إشرافنا وخيارنا ، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازاً .

وقوله : يقولون ، يجوز أن يكون هو الذي أخفوه ، فيكون ذلك تفسيراً بعد إبهام قوله : ما لا يبدون لك .

ومعناه : يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض .

وقوله : من الأمر ، فسَّر الأمر هنا بما فسر في قول عبد الله بن أبي بن سلول : هل لنا من الأمر من شيء .

فقيل : المعنى لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون ، لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، وقيل : من الرأي والتدبير .

وقيل : من دين محمد .

أي لسنا على حق في اتباعه .

وجواب لو هو الجملة المنفية بما .

وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام .

قيل : وفي قصة أحد اضطراب .

ففي أولها أن عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحداً ، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة ، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة ، وإنما قتلوا بأحد ، فكيف جاء قوله هاهنا ، وحديث الزبير في سماعه معتباً يقول ذلك دليل على أن معتباً حضر أحداً ؟ فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد الله بعض المنافقين وحضر أحداً ، فيتجه قوله هاهنا ، وإنْ لم يصح فيوجه قوله : هاهنا إلى أنه إشارة إلى أحد إشارة القريب الحاضر لقرب أحد من المدينة .

{ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري : وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلّ عليه بضروب من المعقول نحو : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } { أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر } وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي .

ومنه قول الشاعر :

جرى القضاء بما فيه فإن تلم *** فلا ملام على ما خط بالقلم

وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة ، أقوال .

ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرىء له أجل واحد لا يتعداه .

فإنْ قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلاّ مات لذلك الأجل ، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض هو أجل واحد لكل امرىء وإن تعددت الأسباب .

وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته .

فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني من علم الله أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده .

فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ، ليكون ما علم أنه يكون .

والمعنى : أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله .

وإنما ينكبون به في بعض الأوقات .

تمحيص لهم ، وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة .

انتهى كلامه .

وهو نوع من الخطابة والمعنى في الآية واضح جداً لا يحتاج إلى هذا التطويل .

وقرأ الجمهور : لبرز ، ثلاثياً مبنياً للفاعل .

أي لصاروا في البراز من الأرض .

وقرأ أبو حيوة : لبرّز مبنياً للمفعول مشدّد الراء ، عدي برز بالتضعيف .

وقرأ الجمهور : كتب مبنياً للمفعول ، ورفع القتل .

وقرئ : كتب مبنياً للفاعل ، ونصب القتل .

وقرأ الحسن والزهري : القتالُ مرفوعاً .

وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن المنافقين ، أي : لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال ، وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم ، فاستغنى بهم عنكم .

{ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } تقدم معنى الابتلاء والتمحيص .

فقيل : المعنى إنّ الله فرض عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم ، وليمحص عنكم سيئاتكم إنْ تبتم وأخلصتم .

وقيل : ليعاملكم معاملة المختبر .

وقيل : ليقع منكم مشاهدة علمه غيباً كقوله : { فينظر كيف تعملون }

وقيل : هو على حذف مضاف .

أي : وليبتلي أولياء الله ما في صدوركم ، فأضافه إليه تعالى تفخيماً لشأنه .

والواو قيل : زائدة .

وقيل : للعطف على علة محذوفة ، أي : ليقضي الله أمره وليبتلي .

وقال ابن بحر : عطف على ليبتليكم ، لما طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص .

وقيل : تتعلق اللام بفعل متأخر ، التقدير : وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة .

وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه الصدور وهي القلوب كما قال : { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات والعقائد .

{ والله عليم بذات الصدور } تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وجاء بها عقيب قوله : وليمحص ما في قلوبكم على معنى : أنه عليم بما انطوت عليه الصدور ، وما أضمرته من العقائد ، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه .

/خ159