البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّلۡأَبۡرَارِ} (198)

{ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } لما تضمن ما تقدم أن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل ، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم ، فدل على قلّة ما متعوا به ، لأنّ ذلك منقض بانقضاء حياتهم ، ودلّ على استقرارهم في النار .

استدرك بلكن الأخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين ، وذلك شيئان : أحدهما مكان استقرار وهي الجنات ، والثاني ذكر الخلود فيها وهو الإقامة دائماً والتمتع بنعيمها سرمداً .

فقابل جهنم بالجنات ، وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم ، فوقعت لكن هنا أحسن موقع ، لأنه آل معنى الجملتين إلى تكذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين ، فهي واقعة بين الضدين .

وقرأ الجمهور : لكنْ خفيفة النون .

وقرأ أبو جعفر : بالتشديد ، ولم يظهر لها عمل ، لأن اسمها مبني .

{ نزلاً من عند الله } النزل ما يعد للنازل من الضيافة والقرى .

ويجوز تسكين رايه ، وبه قرأ : الحسن ، والنخعي ، ومسلمة بن محارب ، والأعمش .

وقال الشاعر :

وكنا إذا الجبار بالجيش خافنا *** جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

قال ابن عباس : النزل الثواب ، وهي كقوله : { ثواباً من عند الله } وقال ابن فارس : النزل ما يهيأ للنزيل ، والنزيل الضيف .

وقيل : النزل الرزق وما يتغذى به .

ومنه : { فنزل من حميم } أي فغذاؤه .

ويقال : أقمت للقوم نزلهم أي ما يصلح أن ينزل عليه من الغذاء ، وجمعه أنزال .

وقال الهروي : الأنزال التي سويت ، ونزل عليها .

ومعنى من عند الله : أي لا من عند غيره ، وسماه نزلاً لأنه ارتفع عنهم تكاليف السعي والكسب ، فهو شيء مهيأ يهيأ لهم لا تعب عليهم في تحصيله هناك ، ولا مشقة .

كالطعام المهيأ للضيف لم يتعب في تحصيله ، ولا في تسويته ومعالجته .

وانتصاب نزلاً قالوا : إما على الحال من جنات لتخصصها بالوصف ، والعامل فيها العامل في لهم .

وإما بإضمار فعل أي : جعلها نزلاً .

وإمّا على المصدر المؤكد فقدره ابن عطية : تكرمة ، وقدره الزمخشري : رزقاً أو عطاء .

وقال الفرّاء : انتصب على التفسير كما تقول : هو لك هبة وصدقة انتهى .

وهذا القول راجع إلى الحال .

{ وما عند الله خير للأبرار } ظاهره حوالة الصلة على ما تقدم من قوله : نزلاً من عند الله .

والمعنى : أن الذي أعده الله للأبرار في الآخرة خير لهم ، فيحتمل أن يكون المفضل عليه بالنسبة للأبرار أي خير لهم مما هم فيه في الدنيا ، وإليه ذهب : ابن مسعود .

وجاء « لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها » ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى الكفار ، أي : خير لهم مما يتقلب فيه الكفار من المتاع الزائل .

وقيل : خير هنا ليست للتفضيل ، كما أنها في قوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } والأظهر ما قدمناه .

وللأبرار متعلق بخير ، والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات .

وقيل : فيه تقديم وتأخير .

أي الذي عند الله للأبرار خير لهم ، وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول ، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة ، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها .

/خ200