{ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } روي أن أم سلمة قالت : يا رسول الله قد ذكر الله الرّجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك ، فنزلت ، ونزل آيات في معناها فيها ذكر النساء .
ومعنى استجاب : أجاب ، ويعدي بنفسه وباللام .
وتقدم الكلام في { فليستجيبوا لي } ونقل تاج القرّاء أن أجاب عام ، واستجاب خاص في حصول المطلوب .
وقرأ الجمهور : إني على إسقاط الباء ، أي : بأني .
وقرأ عيسى بن عمر : إني بكسر الهمزة ، فيكون على إضمار القول على قول البصريين ، أو على الحكاية بقوله : فاستجاب .
لأن فيه معنى القول على طريقة الكوفيين .
وقرأ بعضهم : أضيع بالتشديد من ضيَّع ، والهمزة والتشديد فيه للنقل كما قال الشاعر :
كمرضعة أولاد أخرى وضيَّعت *** بنى بطنها هذا الضلال عن القصد
ومعنى ذلك : لا أترك جزاء عامل منكم .
ومنكم في موضع الصفة ، أي : كائن منكم .
وقوله : من ذكر أو أنثى ، قيل : من تبيين لجنس العامل ، فيكون التقدير الذي هو ذكر أو أنثى .
ومن قيل : زائدة لتقدم النفي في الكلام .
وقيل : مِنْ في موضع الحال من الضمير الذي في العامل في منكم أي : عامل كائن منكم كائناً من ذكر أو أنثى .
وقال أبو البقاء : من ذكر أو أنثى بدل من منكم ، بدل الشيء من الشيء ، وهما لعينٍ واحدة انتهى .
فيكون قد أعاد العامل وهو حرف الجر ، ويكون بدلاً تفصيلياً من مخاطب .
ويعكر على أن يكون بدلاً تفصيلياً عطفه بأو ، والبدل التفصيلي لا يكون إلا بالواو كقوله :
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة *** ورجل رمى فيها الزمان فشلت
ويعكر على كونه من مخاطب أنَّ مذهب الجمهور : أنه لا يجوز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة ، وأجاز ذلك الأخفش .
هكذا أطلق بعض أصحابنا الخلاف وقيده بعضهم بما كان البدل فيه لإحاطة ، فإنه يجوز إذ ذاك .
وهذا التقييد صحيح ، ومنه { تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا } فقوله لأوّلنا وآخرنا بدل من ضمير المتكلم في قوله : لنا وقول الشاعر :
فما برحت أقدامنا في مقامنا *** ثلاثتنا حتى أرينا المنائيا
فثلاثتنا بدل من ضمير المتكلم .
وأجاز ذلك لأنه بدل في معنى التوكيد ، ويشهد لمذهب الأخفش قول الشاعر :
بكم قريش كفينا كل معضلة *** وأم نهج الهدى من كان ضليلا
وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى *** بمستلئم مثل الفنيق المرجل
وبمستلئم بدل من ضمير المتكلم .
وقد تجيء أو في معنى الواو إذا عطفت ما لا بد منه كقوله :
قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم *** من بين ملجم مهره أو سافع
فكذلك يجوز ذلك هنا في أو ، أن تكون بمعنى الواو ، لأنه لما ذكر عمل عامل دل على العموم ، ثم أبدل منه على سبيل التأكيد ، وعطف على حد الجزئين ما لا بد منه ، لأنه لا يؤكد العموم إلا بعموم مثله ، فلم يكن بدّ من العطف حتى يفيد المجموع من المتعاطفين تأكيد العموم ، فصار نظير من بين ملجم مهره أو سافع .
لأنّ بين لا تدخل على شيء واحد ، فلا بد من عطف مصاحب مجرورها .
ومعنى بعضكم من بعض : أي مجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد ، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله .
فإذا كنتم مشتركين في الأصل ، فكذلك أنتم مشتركون في الأجر وتقبل العمل .
فيكون من هنا تفيد التبعيض الحقيقي ، ويشير بذلك الاشتراك الأصلي إلى الاشتراك في الأجر على حدّ واحد .
وقيل : معناه بعضكم من بعض في الدين والنصرة ، والمعنى : أن وصف الإيمان يجمعهم ، كما جاء «المسلمون تتكافاً دماؤهم » وقيل : معناه الذكور من الإناث ، والإناث من الذكور ، فكذلك الثواب .
فكما اشتركوا في هذه البعضية كذلك اشتركوا في الأجر والثواب .
ومحصول معنى هذه الجملة : أنه جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين ، وقد تقدّم ذكر سبب نزولها وهو : سؤال أم سلمة وخرّجه الحاكم في صحيحه .
{ فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي } لما ذكر تعالى أنه لا يضيع عمل عاملٍ ، ذكرَ مَنْ عمل الأعمال السنية التي يستحق بها أن لا يضيع عمله ، وأن لا يترك جزاؤه .
فذكر أولاً الهجرة وهي : الخروج من الوطن الذي لا يمكن إقامة دينه فيه إلى المكان الذي يمكن ذلك فيه ، وهذا من أصعب شيء على الإنسان ، إذ هو مفارقة المكان الذي ربا فيه ونشأ مع أهله وعلى طريقتهم ، ولولا نوازع الغوى المربى على وازع النشأة ما أمكنه ذلك .
ألا ترى لقول الشاعر هما لابن الرومي :
وحبب أوطان الرجال إليهم *** مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم *** عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وقال ابن الصفي رفاعة بن عاصم الفقعسي :
أحب بلاد الله ما بين منعج *** إليّ وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي *** وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
بها طال تجراري ردائي حقبة *** وزينت ريّا الحجل درم كعابها
واسم الهجرة وفضلها الخاص قد انقطع بعد الفتح ، ولكنّ المعنى باق إلى يوم القيامة .
وقد تقدّم معنى المفاعلة في هاجر ، ثم ذكر الإخراج من الديار وهو : أنهم ألجئوا واضطروا إلى ذلك ، وفيه إلزام الذنب للكفار .
والمعنى : أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء عشرة الكفار وقبيح أفعالهم معهم ، كما قال تعالى : { وإخراج أهله منه أكبر عند الله } وإذا كان الخروج برأي الإنسان وقوة منه على الأعداء جاء الكلام بنسبة الخروج إليه ، فقيل : خرج فلان ، قال معناه : ابن عطية .
قال : فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده .
وردني إلى الله من طردته كل مطرّد *** فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " أنت طرّدتني كل مطرد " إنكاراً عليه .
في عصبة من قريش قال قائلهم *** ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال انكاس ولا كشف *** عند اللقاء ولا ميل معازيل
ثم ذكر الإذابة في سبيل الله ، والمعنى : في دين الله .
وبدأ أولاً بالخاص وهي الهجرة وكانت تطلق على الهجرة إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثنى بما ينشأ عنه ما هو أعم من الهجرة وهو الإخراج من الديار .
فقد يخرج إلى الهجرة إلى المدينة أو إلى غيرها كخروج من خرج إلى الحبشة ، وكخروج أبي جندل إذ لم يترك يقيم بالمدينة .
وأتى ثالثاً بذكر الإذاية وهي أعم من أن تكون بإخراج من الديار أو غير ذلك من أنواع الأذى ، وارتقى بعد هذه الأوصاف السنية إلى رتبة جهاد من أخرجه ومقاومته واستشهاده في دين الله ، فجمع بين رتب هذه الأعمال من تنقيص أحواله في الحياة لأجل دين الله بالمهاجرة ، وإخراجه من داره وإذايته في الله ، ومآله أخيراً إلى إفنائه بالقتل في سبيل الله .
والظاهر : الإخبار عن مَن جمع هذه الأوصاف كلها بالخبر الذي بعد ، ويجوز أن يكون ذلك من عطف الصلاة .
والمعنى : اختلاف الموصول لا اتحاده ، فكأنه قيل : فالذين هاجروا ، والذين أخرجوا والذين أوذوا ، والذين قاتلوا ، والذين قتلوا ، ويكون الخبر عن كل من هؤلاء .
وقرأ جمهور السبعة : وقاتلوا وقتلوا ، وقرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا يبدآن بالمبني للمفعول ، ثم بالمبني للفاعل ، فتتخرج هذه القراءة على أن الواو لا تدل على الترتيب ، فيكون الثاني وقع أولاً ويجوز أن يكون ذلك على التوزيع فالمعنى : قتل بعضهم وقاتل باقيهم .
وقرأ عمر بن عبد العزيز : وقتلوا وقتلوا بغير ألف ، وبدأ ببناء الأول للفاعل ، وبناء الثاني للمفعول ، وهي قراءة حسنة في المعنى ، مستوفية للحالين على الترتيب المتعارف .
وقرأ محارب بن دثار : وقتلوا بفتح القاف وقاتلوا .
وقرأ طلحة بن مصرف : وقتلوا وقاتلوا بضم قاف الأولى ، وتشديد التاء ، وهي في التخريج كالقراءة الأولى .
{ وقاتلوا وقتلوا } بتشديد التاء والبناء للمفعول ، أي قطعوا في المعركة .
{ لأكفرنّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار } لأكفرن : جواب قسم محذوف ، والقسم وما تلقى به خبر عن قوله : { فالذين هاجروا } وفي هذه الآية ونظيرها من قوله : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم } { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وقول الشاعر :
جشأت فقلت اللذ خشيت ليأتين *** وإذا أتاك فلات حين مناص
رد على أحمد بن يحيى ثعلب إذ زعم أن الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ لا تكون قسمية .
{ ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب } انتصب ثواباً على المصدر المؤكد ، وإن كان الثواب هو المثاب به ، كما كان العطاء هو المعطى .
واستعمل في بعض المواضع بمعنى المصدر الذي هو الإعطاء ، فوضع ثواباً موضع إثابة ، أو موضع تثويباً ، لأنَّ ما قبله في معنى لأثيبنهم .
وجوّز أن يكون حالاً من جنات أي : مثاباً بها ، أو من ضمير المفعول في : { ولأدخلنهم } أي مثابين .
وأن يكون بدلاً من جنات على تضمين ، ولأدخلنهم معنى : ولأعطينهم .
وأن يكون مفعولاً بفعل محذوف يدل عليه المعنى أي : يعطيهم ثواباً .
وقال الكسائي : هو منصوب على القطع ، ولا يتوجه لي معنى هذين القولين هنا .
ومعنى : من عند الله ، أي من جهة فضل الله ، وهو مختص به ، لا يثيبه غيره ، ولا يقدر عليه .
كما تقول عندي ما تريد ، تريد اختصاصك به وتملكه ، وإن لم يكن بحضرتك .
وأعربوا عنده حسن الثواب مبتدأ ، وخبراً في موضع خبر المبتدأ الأول .
والأحسن أن يرتفع حسن على الفاعلية ، إذ قد اعتمد الظرف بوقوعه خبراً فالتقدير : والله مستقر ، أو استقرّ عنده حسن الثواب .
قال الزمخشريّ : وهذا تعليم من الله كيف يدعى ، وكيف يبتهل إليه ويتضرّع ، وتكرير ربنا من باب الابتهال ، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة من احتمال المشاق في دين الله والصبر على صعوبة تكاليفه ، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه ، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولاً إليه بالعمل بالجهل والغباوة انتهى .
وآخر كلامه إشارة إلى مذهب المعتزلة وطعن على أهل السنة والجماعة .