الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }
. وقال النحاس : مكية . وقال النقاش : نزلت عند الهجرة منمكة إلى المدينة انتهى . ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة . وفي البخاري : آخر آية نزلت
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ }
الرقيب : فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقباً ورقوباً ورقباناً ، أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه .
ويقترن به الحفظ ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم : رقيب .
كمقاعد الرقباء للض *** ضرباء أيديهم نواهد
والرقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء .
والرقيب : ضرب من الحيات ، والمرقب : المكان العالي المشرف الذي يقف عليه الرقيب .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } .
وقال النقاش : نزلت عند الهجرة من مكة إلى المدينة انتهى .
ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة .
وفي البخاري : آخر آية نزلت { يستفتونك ، قل الله يفتيكم في الكلالة } ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب ، ونبه تعالى بقوله : { أني لا أضيع عمل عامل منكم } على المجازاة .
وأخبر أنَّ بعضهم من بعض في أصل التوالد ، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل ، وتفرَّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف ، ولينبه بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابداً لله مفرده بالتوحيد والتقوى ، طائعاً له ، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه .
فنادى تعالى : دعاء عامًّا للناس ، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر ، وجعل سبباً للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة .
ومن كان قادراً على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأنْ يتقي .
ونبه بقوله : من نفس واحدة ، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض ، وألف له دون غيره ، ليتألف بذلك عباده على تقواه .
والظاهر في الناس : العموم ، لأن الألف واللام فيه تفيده ، وللأمر بالتقوى وللعلة ، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان .
وقيل : المراد بالناس أهل مكة ، كان صاحب هذا القول ينظر إلى قوله : { تساءلون به والأرحام } لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك .
وقيل : المراد المؤمنون نظراً إلى قوله :
{ إنما المؤمنون إخوة } وقوله : « المسلم أخو المسلم » والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرة فقط ، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية ، لأنهم غير عارفين بالله ، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو : { يا أيها الناس إن وعد الله حق } { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية .
قيل : وجعل هذا المطلع مطلعاً السورتين : إحداهما : هذه وهي الرابعة من النصف الأول .
والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من النصف الثاني .
وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد .
وبدأ بالمبدأ بأنه الأول ، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامّة فيما يتقي من موجب العقاب ، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد .
وقيل : يجوز أن يكون أراد بالتقوى تقوى خاصة ، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله .
فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه .
وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة .
وقال ابن عباس : المراد بالتقوى الطاعة .
وقيل : اجتناب الكبائر والصغائر .
والمراد بقوله : من نفس واحدة آدم .
وقرأ الجمهور : واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس .
وقرأ ابن أبي عبلة : واحد على مراعاة المعنى ، إذ المراد به آدم ، أو على أن النفس تذكر وتؤنث ، فجاءت قراءته على تذكير النفس .
ومعنى الخلق هنا : الاختراع بطريق التفريع ، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر :
إلى عرق الثرى وشجت عروقي *** وهذا الموت يسلبني شبابي
قال : في ري الظمآن ، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه ، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع .
وعلى أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية ، وإلا لقال : أخرجكم من نفس واحدة ، فأضاف خلقنا إلى آدم ، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده ، ولكنه الأصل انتهى .
وقال الأصم : لا يدل العقل على أنَّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة ، بل السمع .
ولما كان صلى الله عليه وسلم أميّاً ما قرأ كتاباً ، كان معنى خلقكم دليلاً على التوحيد ، ومن نفس واحدة دليلاً على النبوّة انتهى .
وفي قوله : من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر ، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ودلالة على المعاد ، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى .
وظاهر منها ابتداء خلق حوّاء من نفسه ، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه ، وبه قال : ابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي .
وقتادة قالوا إن الله تعالى خلق آدم وحشاً في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله .
وقيل : من يمينه ، فحلق منها حواء .
قال ابن عطية : ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : « إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها » انتهى .
ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن ، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة ، أي : صعبات المراس ، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل .
ويؤيد هذا التأويل قوله : إن المرأة ، فأتى بالجنس ولم يقل : إن حوّاء .
وقيل : هو على حذف مضاف ، التقدير : وخلق من جنسها زوجها قاله : ابن بحر وأبو مسلم لقوله : { من أنفسكم أزواجاً } { ورسولاً منهم } قال القاضي : الأول أقوى ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة .
ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة من لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم ، صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة .
ولما كان قادراً على خلق آدم من التراب كان قادراً على خلق حواء أيضاً كذلك .
وقيل : لا حذف ، والضمير في منها ، ليس عائداً على نفس ، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم .
وخلقت منها حواء أي : أنها خلقت مما خلق منه آدم .
وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم : أنها خلقت وآدم في الجنة ، وبه قال : ابن مسعود .
وقيل : قبل دخوله الجنة وبه قال : كعب الأحبار ووهب ، وابن إسحاق .
وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها ، من أنَّ خلق حواء كان قبل خلق الناس .
إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية ، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس ، وإن كان مدلولها واقعاً بعد خلق حواء ، لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم .
فكان ذكر ما تعلق بهم أولاً آكد ، ونظيره : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } ومعلوم أنّ خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم .
ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها ، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولاً ، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم .
وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخراً عن ما عطف عليه ، فقدر معطوفاً عليه محذوفاً متقدماً على المعطوف في الزمان ، فقال : يعطف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه .
والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعها .
ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية .
وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال : يعطف على خلقكم .
ويكون الخطاب في : يا أيها الناس الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حوّاء انتهى .
ويجوز أن يكون قوله : وخلق منها زوجها معطوفاً على اسم الفاعل الذي هو واحدة التقدير من نفس وحدت ، أي انفردت .
وخلق منها زوجها ، فيكون نظير { صافات ويقبضن } وتقول العرب : وحد يحد وحدا ووحدة ، بمعنى انفرد .
ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام : « إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة » وعنى بزوجها البدن ، وعنى بالخلق التركيب .
وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : { ومن كل شيئين خلقنا زوجين } وقوله : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم } ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب .
وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب ، والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى انتهى .
وهذا مخالف لكلام المتقدمين ، قال بعضهم : ونبه بقوله : وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها ، لكونها بعضه .
وبث منهما أي من تلك النفس ، وزوجها أي : نشر وفرق في الوجود .
ويقال : أبث الله الخلق رباعياً ، وبث ثلاثياً ، وهو الوارد في القرآن رجالاً كثيراً ونساء .
قيل : نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء ، وخص رجالاً بذكر الوصف بالكثرة ، فقيل : حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه ، والتقدير : ونساء كثيرة .
وقيل : لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحاً ، لأنّه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة ، على أن اللائق بحالهم الاشتهار والخروج والبروز ، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء .
وفي تنويع ما خلق من آدم وحوّاء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى ، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين ، فإنْ وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين .
وقرئ : وخالق منها زوجها ، وبات على اسم الفاعل وهو : خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق .
{ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } كرر الأمر بالتقوى تأكيداً للأول .
وقيل : لاختلاف التعليل وذكر أولاً : الرب الذي يدل على الإحسان والتربية ، وثانياً : الله الذي يدل على القهر والهيبة .
بنى أولاً على الترغيب ، وثانياً على الترهيب .
كقوله : { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } و { ويدعوننا رغباً ورهباً } كأنه قال : إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته ، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب .
وقرأ الجمهور من السبعة : تساءلون .
وقرأ الكوفيون : بتخفيف السين ، وأصله تتساءلون .
قال ابن عطية : وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً ، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة .
قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال ، كما قالوا : طست فابدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس .
لو عرضت لأسقفي قس *** أشعث في هيكله مندس
حن إليها كحنين الطس *** انتهى .
أما قول ابن عطية : حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة .
وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي : إلى أنّ المحذوفة هي الأولى ، وهي تاء المضارعة ، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو .
وأما قوله : وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى ، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات ، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل ، والإدغام وهو قريب من الأصل ، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم .
وظاهر كلامه اختصاص الادغام والحذف بتتفاعلون ، وليس كذلك .
أما الإدغام فلا يختص به ، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر .
وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع ، فقوله : لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه ، أو تعليل الحذف والإدغام ، وليس كذلك .
أما إن كان تعليلاً فليس كذلك ، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة .
وأما إن كان تعليلاً لهما فيصح الإدغام لا الحذف كما ذكرنا .
وأما قول أبي علي : إذا اجتمعت المتقاربة فكذا ، فلا يعني أن ذلك حكم لازم ، إنما معناه : أنه قد يكون التخفيف بكذا ، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل .
وأما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع ، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت .
ومعنى يتساءلون به : أي يتعاطون به السؤال ، فيسأل بعضكم بعضاً .
أو يقول : أسألك بالله أن تفعل ، وظاهر تفاعل الاشتراك أي : تسأله بالله ، ويسألك بالله .
وقالت طائفة : معناه تسألون به حقوقكم وتجعلونه معظماً لها .
وقرأ عبد الله : تسألون به مضارع سأل الثلاثي .
وقرى : تسلون بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين .
قال ابن عباس : معنى تساءلون به أي تتعاطفون .
وقال الضحاك والربيع : تتعاقدون وتتعاهدون .
وقال الزجاج : تتطلبون به حقوقكم والأرحام .
قرأ جمهور : السبعة بنصب الميم .
وقرأ حمزة : بجرها ، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش .
وقرأ عبد الله بن يزيد : بضمها ، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفاً على لفظ الجلالة ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، التقدير : واتقوا الله ، وقطع الأرحام .
وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم .
والجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحام هذا القدر المشترك ، وإن اختلف معنى التقويين ، لأن تقوى الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يفضل بالبر والإحسان ، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي : كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ؟ ونقول أيضاً أنه في الحقيقة من باب عطف الخاص على العام ، لأن المعنى : واتقوا الله أي اتقوا مخالفة الله .
وفي عطف الأرحام على اسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم ، وانظر إلى قوله :
{ لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى } كيف قرن ذلك بعبادة الله في أخذ الميثاق .
وفي الحديث : « من أبرّ ؟ قال : أمّك وفيه : أنت ومالك لأبيك » وقال تعالى في ذم من أضله : من الفاسقين { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } وقيل : النصب عطفاً على موضع به كما تقول : مررت بزيد وعمراً .
لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه .
ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله : تساءلون به وبالأرحام .
أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدره ابن عطية : والأرحام أهل أن توصل .
وقدره الزمخشري : والأرحام مما يتقى ، أو مما يتساءل به ، وتقديره أحسن من تقدير ابن عطية ، إذ قدر ما يدل عليه اللفظ السابق ، وابن عطية قدر من المعنى .
وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار ، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد .
ويؤيده قراءة عبد الله : وبالأرحام .
وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم .
قال الزمخشري : وليس بسديد يعني : الجر عطفاً على الضمير .
قال : لأن الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فكانا في قولك : مررت به وزيد ، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال ، فلما اشتد الاتصال لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر ، ووجب تكرير العامل كقولك : مررت به وبزيد ، وهذا غلامه وغلام زيد .
ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيداً ، ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر ؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ، ونظير هذا قول الشاعر :
فما بك والأيام من عجب *** وقال ابن عطية : وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض .
قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان ، يحل كل واحد منهما محل صاحبه .
فكما لا يجوز مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد .
وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال :
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا *** فاذهب فما بك والأيام من عجب
تعلق في مثل السواري سيوفنا *** وما بينها والكف غوط تعانف
واستسهلها بعض النحويين انتهى كلام ابن عطية .
وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول : رأيتك وزيداً ، ولا يجوز رأيت زيداوك ، فكان القياس رأيتك وزيداً ، أن لا يجوز .
وقال ابن عطية أيضاً : المضمر المخفوض لا ينفصل ، فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف .
ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما : أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفريق في معنى الكلام .
وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة .
والوجه الثاني : أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : « من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت » انتهى كلامه .
وذهبت طائفة إلى أنَّ الواو في والأرحام واو القسم لا واو العطف ، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده .
ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى ، وذهبوا إلى تخريج ذلك فراراً من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار ، وذهاباً إلى أن في القسم بها تنبيهاً على صلتها وتعظيماً لشأنها ، وأنها من الله تعالى بمكان .
قال ابن عطية : وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى .
وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية : من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح ، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز .
وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى : { وكفر به والمسجد الحرام } وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وأما قول ابن عطية : ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان ، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه .
إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها سلف الأمة ، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت .
وأقرأ الصحابة أُبيّ بن كعب عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه ، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري ، فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم ، وحمزة رضي الله عنه : أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش ، وحمدان بن أعين ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق ، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر .
وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقةً في الحديث ، وهو من الطبقة الثالثة ، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة ، وأم الناس سنة مائة ، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم : سفيان الثوري ، والحسن بن صالح .
ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي ، وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم : غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض .
وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها وبقارئها ، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك .
ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم ، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون ، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون ، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية ، لا أصحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ .
{ إن الله كان عليكم رقيباً } لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى ، وإن كان موضوع كان ذلك ، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا ، والرقيب تقدم شرحه في المفردات .
وقال بعضهم : هنا هو العليم ، والمعنى : أنه مراع لكم لايخفى عليه ن أمركم شيء فاتقوه