المسيح : عبراني معرب ، وأصله بالعبراني مشيحا ، بالشين عرب بالسين كما غيرت في موشى ، فقيل : موسى ، قاله أبو عبيد وقال الزمخشري : ومعناه المبارك ، كقوله { وجعلني مباركاً أينما كنت } وهو من الألقاب المشرّفة ، كالصدّيق ، والفاروق ، انتهى .
وقيل : المسيح عربي ، واختلف : أهو مشتق من السياحة فيكون وزنه مفعلاً ؟ أو من المسيح فيكون وزنه فعيلاً ؟ وهل يكون بمعنى مفعول أو فاعل خلاف ، ويتبين في التفسير لم سمي بذلك .
{ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } العامل في : إذ ، اذكر أو : يختصمون ، أو إذ ، بدل من إذ ، في قوله : إذ يختصمون ، أو من : وإذ قالت الملائكة ، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة ، وهو بعيد ، وهو قول الزجاج .
ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه .
والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ .
والخلاف في الملائكة : أَهُمْ جمع من الملائكة أو جبريل وحده على ما سبق قبل في خطابهم لزكريا ولمريم ؟ وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من الله ، وبالأمن بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف ، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها ، ولا يجري لأمرأة بعدها ، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها ، وكان جرى ذلك الخارق من رزق الله لها أيضاً تأنيساً لهذا الخارق .
وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر : وإذ قال الملائكة .
والكلمة من الله هو عيسى عليه السلام ، سمي كلمة لصدوره بكلمة : كن ، بلا أب .
وقيل : لتسميته المسيح ، وهو كلمة من الله أي : من كلام الله .
وقيل : لوعد الله به في كتابه التوراة والكتب السابقة .
وفي التوراة : أتانا الله من سيناء ، وأشرق من ساعر ، واستعلن من جبال فاران .
وساعر هو الموضع الذي بعث منه المسيح .
وقيل : لأنه جاء على وفق كلمة جبريل ، وهو : { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } فجاء على الصفة التي وصف .
وقيل : سماه الله بذلك كما سمى من شاء من سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فيكون على هذا علماً موضوعاً له لم تلحظ فيه جهة مناسبة .
وقيل : الكلمة هنا لا يراد بها عيسى ، بل الكلمة بشارة الملائكة لمريم بعيسى .
{ اسمه المسيح عيسى بن مريم } الضمير في اسمه ، عائد على : الكلمة ، على معنى : نبشرك بمكون منه ، أو بموجود من الله .
وسمي : المسيح ، لأنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد ، وشمر .
أو : بالدهن الذي يمسح به الأنبياء ، خرج من بطن أمّه ممسوحاً به ، وهو دهن طيب الرائحة إذا مسح به شخص علم أنه نبي .
أو : بالتطهير من الذنوب ، أو : بمسح جبريل له بجناحه أو : لمسح رجليه فليس فيهما خمص ، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل ، وكان عيسى أمسح القدم لا أخمص له .
بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلج الساقين ممسوح القدم
أو : لمسح الجمال إياه وهو ظهوره عليه ، كما قال الشاعر :
على وجه مي مسحة من ملاحة *** أو : لمسحة من الأقذار التي تنال المولودين ، لأن أمه كانت لا تحيض ولم تدنس بدم نفاس .
أقوال سبعة ، ويكون : فعيل ، فيها بمعنى مفعول ، والألف واللام في : المسيح ، للغلبة مثلها في : الدبران والعيوق .
وقال ابن عباس : سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلاَّ بريء ، فعلى هذا يكون : فعيل ، مبنياً للمبالغة : كعليم ، ويكون من الأمثلة التي حولت من فاعل إلى فعيل للمبالغة .
وقيل : من المساحة ، وكان يجول في الأرض فكأنه كان يمسحها .
وقيل : هو مفعل من ساح يسيح من السياحة .
وقال مجاهد ، والنخعي : المسيح : الصديق .
وقال ابن عباس ، وابن جبير : المسيح : الملك ، سمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى وغير ذلك من الآيات .
وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية مشيحاً ، فغير ، فعلى هذا يكون أسماً مرتجلاً ليس هو مشتقاً من المسح ولا من السياحة { عيسى ابن مريم } الأبناء ينسبون إلى الآباء ، ونسب إليها .
وإن كان الخطاب لها إعلاماً أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إليها .
والظاهر أن اسمه : المسيح ، فيكون : اسمه المسيح ، مبتدأ وخبراً ، و : عيسى ، جوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون بدلاً ، وأن يكون عطف بيان .
ومنع بعض النحويين أن يكون خبراً بعد خبر ، وقال : كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى ، أو أسماها على لفظ الكلمة ، ويجوز أن يكون : عيسى ، خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو عيسى ابن مريم .
قال ابن عطية : ويدعو إلى هذا كون قوله : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف .
وأما على البدل ، أو عطف البيان ، فلا يجوز أن يكون : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، لأن الأسم هنا لم يرد به الشخص .
وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } وهذه ثلاثة أشياء الأسم منها : عيسى ، وأما : المسيح و : الابن ، فلقب وصفة ؟ .
قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ، ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة .
ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة ، فتكون الثلاثة أخباراً عن قوله : اسمه ، ويكون من باب : هذا حلو حامض ، و : هذا أعسر يسر .
فلا يكون أحدها على هذا مستقلاً بالخبرية .
ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر :
أي : مجموع هذا مما يزرع الود ، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع ، كذلك يجوز في الخبر .
وأجاز أبو البقاء أن يكون : ابن مريم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون بدلاً مما قبله ، ولا صفة لأن : ابن مريم ، ليس باسم .
ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو إلاَّ إذا كان علماً عليه ؟ انتهى .
قال بعضهم : ومن قال إن المسيح صفة لعيسى ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره : اسمه عيسى المسيح ، لأن الصفة تابعة لموصوفها . انتهى .
ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة ، لأن المخبر به على هذا اللفظ ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال ، إذ لفظ عيسى ليس المسيح .
ومن قال : إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته .
قال ابن الأنباري : وإنما بدأ بلقبه لأن : المسيح ، أشهر من : عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته .
ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ؟ وهذا يدل على أن المسيح عند أبن الأنباري لقب لا اسم .
قال الزجاج : وعيسى معرب من : ايسوع ، وإن جعلته عربياً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث ، ويكون مشتقاً من : عاسه يعوسه ، إذا ساسه وقام عليه .
وقال الزمخشري : مشتق من العيس كالرقم في الماء .
{ وجيهاً في الدنيا والآخرة } قال ابن قتيبة : الوجيه ذو الجاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة .
وقال ابن دريد : الوجيه المحب المقبول .
وقال الأخفش : الشريف ذو القدر والجاه .
وقيل : الكريم على من يسأله ، لأنه لا يرده لكرم وجهه .
ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته ، وفي الآخرة بعلو درجته .
وقيل : في بالدنيا بالطاعة ، وفي الآخرة بالشفاعة .
وقيل : في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، وفي الآخرة بالشفاعة .
وقيل : في الدنيا كريماً لا يرد وجهه ، وفي الآخرة في علية المرسلين .
وقال الزمشخري : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة .
وقال ابن عطية : وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه ، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته .
{ ومن المقربين } معناه من الله تعالى .
وقال الزمخشري : وكونه من المقرّبين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة .
وقال قتادة : ومن المقربين عند الله يوم القيامة .
وقيل : من الناس بالقبول والإجابة ، قاله الماوردي .
وقيل : معناه : المبالغ في تقريبهم ، لأن فعل من صيغ المبالغة ، فقال : قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه انتهى .
وليس فعل هنا من صيغ المبالغة ، لأن التضعيف هنا للتعدية ، إنما يكون للمبالغة في نحو : جرّحت زيداً و : موّت الناس .
{ ومن المقربين } معطوف على قوله : وجيهاً ، وتقديره : ومقرباً من جملة المقربين .
أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين ، وأن عيسى منهم .
ونظير هذا العطف قوله تعالى : { وانكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل } فقوله : وبالليل ، جار ومجرور في موضع الحال ، وهو معطوف على : مصبحين ، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل ، فلو جاء : ومقرباً ، لم تكن فاصلة ، وأيضاً فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين ، والتقريب صفة جليلة عظيمة .
ألا ترى إلى قوله : { ولا الملائكة المقربون } ؟ وقوله : { فأما إن كان من المقربين فروح } وهو تقريب من الله تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.