البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ} (45)

المسيح : عبراني معرب ، وأصله بالعبراني مشيحا ، بالشين عرب بالسين كما غيرت في موشى ، فقيل : موسى ، قاله أبو عبيد وقال الزمخشري : ومعناه المبارك ، كقوله { وجعلني مباركاً أينما كنت } وهو من الألقاب المشرّفة ، كالصدّيق ، والفاروق ، انتهى .

وقيل : المسيح عربي ، واختلف : أهو مشتق من السياحة فيكون وزنه مفعلاً ؟ أو من المسيح فيكون وزنه فعيلاً ؟ وهل يكون بمعنى مفعول أو فاعل خلاف ، ويتبين في التفسير لم سمي بذلك .

{ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } العامل في : إذ ، اذكر أو : يختصمون ، أو إذ ، بدل من إذ ، في قوله : إذ يختصمون ، أو من : وإذ قالت الملائكة ، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة ، وهو بعيد ، وهو قول الزجاج .

ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه .

والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ .

والخلاف في الملائكة : أَهُمْ جمع من الملائكة أو جبريل وحده على ما سبق قبل في خطابهم لزكريا ولمريم ؟ وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من الله ، وبالأمن بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف ، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها ، ولا يجري لأمرأة بعدها ، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها ، وكان جرى ذلك الخارق من رزق الله لها أيضاً تأنيساً لهذا الخارق .

وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر : وإذ قال الملائكة .

والكلمة من الله هو عيسى عليه السلام ، سمي كلمة لصدوره بكلمة : كن ، بلا أب .

قاله قتادة .

وقيل : لتسميته المسيح ، وهو كلمة من الله أي : من كلام الله .

وقيل : لوعد الله به في كتابه التوراة والكتب السابقة .

وفي التوراة : أتانا الله من سيناء ، وأشرق من ساعر ، واستعلن من جبال فاران .

وساعر هو الموضع الذي بعث منه المسيح .

وقيل : لأن الله يهدي بكلمته .

وقيل : لأنه جاء على وفق كلمة جبريل ، وهو : { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } فجاء على الصفة التي وصف .

وقيل : سماه الله بذلك كما سمى من شاء من سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فيكون على هذا علماً موضوعاً له لم تلحظ فيه جهة مناسبة .

وقيل : الكلمة هنا لا يراد بها عيسى ، بل الكلمة بشارة الملائكة لمريم بعيسى .

وقيل : بشارة النبي لها .

{ اسمه المسيح عيسى بن مريم } الضمير في اسمه ، عائد على : الكلمة ، على معنى : نبشرك بمكون منه ، أو بموجود من الله .

وسمي : المسيح ، لأنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد ، وشمر .

أو : بالدهن الذي يمسح به الأنبياء ، خرج من بطن أمّه ممسوحاً به ، وهو دهن طيب الرائحة إذا مسح به شخص علم أنه نبي .

أو : بالتطهير من الذنوب ، أو : بمسح جبريل له بجناحه أو : لمسح رجليه فليس فيهما خمص ، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل ، وكان عيسى أمسح القدم لا أخمص له .

قال الشاعر :

بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلج الساقين ممسوح القدم

أو : لمسح الجمال إياه وهو ظهوره عليه ، كما قال الشاعر :

على وجه مي مسحة من ملاحة *** أو : لمسحة من الأقذار التي تنال المولودين ، لأن أمه كانت لا تحيض ولم تدنس بدم نفاس .

أقوال سبعة ، ويكون : فعيل ، فيها بمعنى مفعول ، والألف واللام في : المسيح ، للغلبة مثلها في : الدبران والعيوق .

وقال ابن عباس : سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلاَّ بريء ، فعلى هذا يكون : فعيل ، مبنياً للمبالغة : كعليم ، ويكون من الأمثلة التي حولت من فاعل إلى فعيل للمبالغة .

وقيل : من المساحة ، وكان يجول في الأرض فكأنه كان يمسحها .

وقيل : هو مفعل من ساح يسيح من السياحة .

وقال مجاهد ، والنخعي : المسيح : الصديق .

وقال ابن عباس ، وابن جبير : المسيح : الملك ، سمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى وغير ذلك من الآيات .

وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية مشيحاً ، فغير ، فعلى هذا يكون أسماً مرتجلاً ليس هو مشتقاً من المسح ولا من السياحة { عيسى ابن مريم } الأبناء ينسبون إلى الآباء ، ونسب إليها .

وإن كان الخطاب لها إعلاماً أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إليها .

والظاهر أن اسمه : المسيح ، فيكون : اسمه المسيح ، مبتدأ وخبراً ، و : عيسى ، جوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون بدلاً ، وأن يكون عطف بيان .

ومنع بعض النحويين أن يكون خبراً بعد خبر ، وقال : كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى ، أو أسماها على لفظ الكلمة ، ويجوز أن يكون : عيسى ، خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو عيسى ابن مريم .

قال ابن عطية : ويدعو إلى هذا كون قوله : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف .

وأما على البدل ، أو عطف البيان ، فلا يجوز أن يكون : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، لأن الأسم هنا لم يرد به الشخص .

هذه النزعة لأبي علي .

وفي صدر الكلام نظر .

انتهى كلامه .

وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } وهذه ثلاثة أشياء الأسم منها : عيسى ، وأما : المسيح و : الابن ، فلقب وصفة ؟ .

قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ، ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة .

انتهى كلامه .

ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة ، فتكون الثلاثة أخباراً عن قوله : اسمه ، ويكون من باب : هذا حلو حامض ، و : هذا أعسر يسر .

فلا يكون أحدها على هذا مستقلاً بالخبرية .

ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر :

كيف أصبحت كيف أمسيت مما ***

يزرع الود في فؤاد الكريم ؟

أي : مجموع هذا مما يزرع الود ، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع ، كذلك يجوز في الخبر .

وأجاز أبو البقاء أن يكون : ابن مريم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون بدلاً مما قبله ، ولا صفة لأن : ابن مريم ، ليس باسم .

ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو إلاَّ إذا كان علماً عليه ؟ انتهى .

قال بعضهم : ومن قال إن المسيح صفة لعيسى ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره : اسمه عيسى المسيح ، لأن الصفة تابعة لموصوفها . انتهى .

ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة ، لأن المخبر به على هذا اللفظ ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال ، إذ لفظ عيسى ليس المسيح .

ومن قال : إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته .

قال ابن الأنباري : وإنما بدأ بلقبه لأن : المسيح ، أشهر من : عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته .

ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ؟ وهذا يدل على أن المسيح عند أبن الأنباري لقب لا اسم .

قال الزجاج : وعيسى معرب من : ايسوع ، وإن جعلته عربياً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث ، ويكون مشتقاً من : عاسه يعوسه ، إذا ساسه وقام عليه .

وقال الزمخشري : مشتق من العيس كالرقم في الماء .

{ وجيهاً في الدنيا والآخرة } قال ابن قتيبة : الوجيه ذو الجاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة .

وقال ابن دريد : الوجيه المحب المقبول .

وقال الأخفش : الشريف ذو القدر والجاه .

وقيل : الكريم على من يسأله ، لأنه لا يرده لكرم وجهه .

ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته ، وفي الآخرة بعلو درجته .

وقيل : في بالدنيا بالطاعة ، وفي الآخرة بالشفاعة .

وقيل : في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، وفي الآخرة بالشفاعة .

وقيل : في الدنيا كريماً لا يرد وجهه ، وفي الآخرة في علية المرسلين .

وقال الزمشخري : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة .

وقال ابن عطية : وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه ، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته .

{ ومن المقربين } معناه من الله تعالى .

وقال الزمخشري : وكونه من المقرّبين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة .

وقال قتادة : ومن المقربين عند الله يوم القيامة .

وقيل : من الناس بالقبول والإجابة ، قاله الماوردي .

وقيل : معناه : المبالغ في تقريبهم ، لأن فعل من صيغ المبالغة ، فقال : قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه انتهى .

وليس فعل هنا من صيغ المبالغة ، لأن التضعيف هنا للتعدية ، إنما يكون للمبالغة في نحو : جرّحت زيداً و : موّت الناس .

{ ومن المقربين } معطوف على قوله : وجيهاً ، وتقديره : ومقرباً من جملة المقربين .

أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين ، وأن عيسى منهم .

ونظير هذا العطف قوله تعالى : { وانكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل } فقوله : وبالليل ، جار ومجرور في موضع الحال ، وهو معطوف على : مصبحين ، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل ، فلو جاء : ومقرباً ، لم تكن فاصلة ، وأيضاً فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين ، والتقريب صفة جليلة عظيمة .

ألا ترى إلى قوله : { ولا الملائكة المقربون } ؟ وقوله : { فأما إن كان من المقربين فروح } وهو تقريب من الله تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة .

/خ51