الرمز : الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما وأصله التحرك يقال ارتمز تحرك ومنه قيل للبحر الراموز .
وركية والعشية : أواخر النهار ، ولامها واو ، فهي كمطي .
الإبكار : مصدر أبكر ، يقال أبكر : خرج بكرة .
{ قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً } قال الربيع ، والسدي ، وغيرهما : إن زكريا قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك ، والبشارة حق ، فاجعل لي آية ، علامة أعرف بها صحة ذلك ! فعوقب على هذا الشك في أمر الله بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس .
وقالت فرقة من المفسرين : لم يشك قط زكريا ، وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد ، وتتم به البشارة ، فلما قيل له : .
{ كذلك الله يفعل ما يشاء } سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يكون العلوق بيحيى .
واختلفوا في منعه الكلام : هل كان لآفة نزلت به أم لغير آفة ؟ فقال جبير بن نفير : ربا لسانه في فيه حتى ملأه ، ثم أطلقه الله بعد ثلاث .
وقال الربيع ، وغيره : أخذ الله عليه لسانه فجعل لا يقدر على الكلام معاقبة على سؤال آية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة .
وقالت طائفة : لم تكن آفة ، ولكنه منع مجاورة الناس ، فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله .
قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، وكانت الآية حبس اللسان لتخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها ، وكأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلاَّ عن الشكر .
وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقاً من السؤال ، ومنتزعاً منه وكان الإعجاز في هذه الآية من جهة قدرته على ذكر الله ، وعجزه عن تكليم الناس ، مع سلامة البنية واعتدال المزاج ، ومنه جهة وقوع العلوق وحصوله على وفق الاخبار .
وقيل : أمر أن يصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم .
وقال أبو مسلم : يحتمل أن يكون معناه : آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الخلق ، وأن تشتغل بالذكر شكراً على إعطاء هذه الموهبة ، وإذا أمرت بذلك فقد حصل المطلوب .
قيل : فسأل الله أن يفرض عليه فرضاً يجعله شكراً لذلك .
والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه سأل آية تدل على أنه يولد له ، فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً ، وأمر بالذكر والتسبيح وانتفاء الكلام قد يكون لمتكلف به ، أو بملزومه في شريعتهم ، وهو الصوم ، وقد يكون لمنع قهري مدّة معينة لآفة تعرض في الجارحة ، أو لغير آفة ، قالوا : مع قدرته على الكلام بذكر الله .
قال الزمخشري : ولذلك قال : { واذكر ربك } إلى آخره يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس ، وهي من الآيات الباهرة . انتهى .
ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الإنتفاء ، ولأن الأمر بالذكر والتسبيح ليس مقيداً بالزمان الذي لا يكلم الناس ، وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق بالكلام ، وظاهر : إجعل ، هنا أنها بمعنى صيِّر ، فتتعدّى لمفعولين : الأول آية ، والثاني المجرور ، قبله وهو : لي ، وهو يتعين تقديمه ، لأنه قبل دخول : إجعل ، هو مصحح لجواز الابتداء بالنكرة .
وقرأ ابن أبي عبلة : أن لا تكلم ، برفع الميم على أن : أن ، هي المخففة من الثقيلة ، أي أنه لا تكلم ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، أو على إجراء : أن ، مجرى : ما المصدرية ، وانتصاب : ثلاثة أيام ، على الظرف خلافاً للكوفيين ، إذ زعموا أنه كان اسم الزمان يستغرقه الفعل ، فليس بظرف ، وإنما ينتصب انتصاب المفعول به نحو : صمت يوماً ، فانتصاب ثلاثة أيام عندهم على أنه مفعول به ، لأن انتفاء الكلام منه للناس كان واقعاً في جميع الثلاثة ، لم يخل جزء منها من انتفاء فيه .
والمراد : ثلاثة أيام بلياليها ، يدل على ذلك قوله في سورة مريم : { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً } وهذا يضعف تأويل من قال : أمر بالصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم ، والليالي تبعد مشروعية صومها ، ولم يعين ابتداء ثلاثة أيام ، بل أطلق فقال : ثلاثة أيام ، فإن كان ذلك بتكليف فيمكن أن يكون ذلك موكولاً إلى اختياره ، يمتنع من تكليم الناس ثلاثة أيام متى شاء ، ويمكن أن يكون ذلك من حين الخطاب ، وإن كان بمنع قهري فيظهر أنه من حين الخطاب .
قيل : وفي ذلك دلالة على نسخ القرآن بالسنة ، وهذا على تقدير قدرة زكريا على الكلام في تلك الأيام الثلاثة ، وأن شرعه مشرع لنا وإن نسخه قوله صلى الله عليه وسلم : « لا صمت يوم إلى الليل »
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن معناه : لا صمت يوم ، أي عن ذكر الله ، وأما الصمت عما لا منفعة فيه ، فحسن .
واستثناء الرمز ، قيل : هو استثناء منقطع ، إذا الرمز لا يدخل تحت التكليم ، من أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير ، فلا يبعد أن يكون هذا استثناء متصلاً على مذهبه .
أرادت كلاماً فاتقت من رقيبها ***
إذا كلمتني بالعيون الفواتر ***
وكونه استثناءً متصلاً بدأ به الزمخشري .
قال : لما أدّى مؤدّي الكلام ، وفهم منه ما يفهم منه ، سمي كلاما
وأما ابن عطية فاختار أن يكون منقطعاً .
قال : والكلام المراد به في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء أنه منقطع ، وبدأ به أوّلاً ، فقال استثناء الرمز وهو استثناء منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً ، والرمز هنا : تحريك بالشفتين ، قاله مجاهد .
أو : إشارة باليد والرأس ، قاله الضحاك ، والسدّي ، وعبد الله بن كثير .
أو : إشارة باليد ، قاله الحسن .
فالإيماء هو الإشارة لكنه لم يعين بماذا أشار .
وروي عن قتادة : إشارة باليد أو اشارة بالعين ، روي ذلك عن الحسن .
وقيل : رمزه الكتابة على الأرض .
وقيل : الإشارة بالأصبع المسبحة .
وقرأ علقمة بن قيس ، ويحيى بن وثاب : رمزاً ، بضم الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رموز ، كرسل ورسول ، وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فعل ، وأتبعت العين الفاء كاليسر واليسر .
وقرأ الأعمش : رمزاً ، بفتح الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رامز ، كخادم وخدم ، وانتصابه إذا كان جمعاً على الحال من الفاعل ، وهو الضمير في تكلم ، ومن المفعول وهو : الناس .
أي : إلاَّ مترامزين كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه .
وفي قوله : { إلا رمزاً } دلالة على أن الإشارة تتنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة .
فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : » أعتقها فإنها مؤمنة « فأجاز الإسلام بالإشارة وهو أصل الديانة التي تحقن الدم وتحفظ المال وتدخل الجنة ، فتكون الإشارة عامة في جميع الديانات ، وهو قول عامة الفقهاء .
{ واذكر ربك كثيراً } قيل : الذكر هنا هو بالقلب ، لأنه منع من الكلام .
وقيل : باللسان لأنه منع من الكلام مع الناس ولم يمنع من الذكر .
وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : واذكر عطاء ربك وإجابته لدعائك .
وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا ، وللرجل في الحرب .
وقد قال تعالى : { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً } وأمر بكثرة الذكر ليكثر ذكر الله له بنعمه وألطافه ، كما قال تعالى : { فاذكروني أذكركم }
وانتصاب : كثيراً ، على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه : اذكروا ، على مذهب سيبويه .
{ وسبح بالعشيّ والإبكار } أي : نزه الله عن سمات النقص بالنطق باللسان بقولك : سبحان الله .
وقيل : معنى وسبح وصلّ ، ومنه : كان يصلي سبحة الضحى أربعاً ، فلولا أنه كان من المسبحين على أحد الوجهين .
والظاهر أنه أمر بتسبيح الله في هذين الوقتين : أول الفجر ، ووقت ميل الشمس للغروب ، قاله مجاهد وقال غيره : يحتمل أن يكون أراد بالعشيّ الليل ، وبالإبكار النهار ، فعبر بجزء كل واحد منهما عن جملته ، وهو مجاز حسن .
ومفعول : وسبح ، محذوف للعلم به ، لأن قبله : { واذكر ربك كثيراً } أي : وسبح ربك .
و : الباء في : بالعشى ، ظرفية أي : في العشي .
وقرئ شاذاً والابكار ، بفتح الهمزة ، وهو جمع بكر بفتح الباء والكاف ، تقول : أتيتك بكراً ، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان من يوم معين ونظيره : سحر وأسحار ، وجبل وأجبال .
وهذه القراءة مناسبة للعشي على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من حيث الجمعية ، وكذلك هي مناسبة إذا كان العشي مفرداً ، وكانت الألف واللام فيه للعموم ، كقوله : { إن الإنسان لفي خسر } وأهلك الناس الدينار الصفر .
وأما على قراءة الجمهور : والإبكار ، بكسر الهمزة ، فهو مصدر ، فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت ، بالمصدر ، فيحتاج إلى حذف أي : بالعشي ووقت الإبكار .
والظاهر في : بالعشي والإبكار ، أن الألف واللام فيهما للعموم ، ولا يراد به عشى تلك الثلاثة الأيام ولا وقت الإبكار فيها .
وقال الراغب : لم يعن التسبيح طرفي النهار فقط ، بل إدامة العبادة في هذه الأيام .
وقال غيره : يدل على أن المراد بالتسبيح الصلاة ، ذكره العشي والإبكار فكأنه قال : اذكر ربك في جميع هذه الأيام والليالي ، وصل طرفي النهار . انتهى .
ويتعلق : بالعشي ، بقوله : وسبح ، ويكون على إعمال الثاني وهو الأولى ، إذ لو كان متعلقاً بقوله : واذكر ربك ، لأضمر في الثاني ، إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة .
قيل : أو في قليل من الكلام ، ويحتمل أن لا يكون من باب الإعمال ، فيكون الأمر بالذكر غير مقيد بهذين الزمانين .