البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ} (44)

القلم : معروف وهو الذي يكتب به ، وجمعه أقلام ويقع على السهم الذي يقترع به ، وهو فعل بمعنى مفعولاً لأنه يقلم أي : يبرى ويسوى وقيل : هو مشتق من القلامة ، وهي نبت ضعيف لترقيقه ، والقلامة أيضاً ما سقط من الظفر إذا قلم ، وقلمت أظفاره أخذت منها وسويتها قال زهير :

لدى أسد شاكي السلاح مقذف *** له لبد أظفاره لم تقلم

وقال بعض المولدين :

يشبه بالهلال وذاك نقص *** قلامة ظفره شبه الهلال

الوحي : إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، فقد يكون بالملك للرسل وبالإلهام كقوله : { وأوحى ربك إلى النحل } وبالإشارة كقوله .

لأوحت إلينا والأنامل رسلها ***

{ فأوحى إليهم أن سبحوا } وبالكتابة : قال زهير :

أتى العجم والآفاق منه قصائد ***

بَقِينَ بقاء الوَحْيِ في الحَجَرِ الأَصَمّ

والوحي : الكتاب قال :

فمدافع الرّيان عرّى رسمها ***

خلقا كما ضمن الوحيّ سلامها

وقيل : الوحي جمع : وحي ، وأما الفعل فيقال أوحى ووحي .

{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } الإشارة إلى ما تقدّم من قصص امرأة عمران ، وبنتها مريم ، وزكريا ، ويحيى ، والمعنى : أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب ، ولا صحب من يعرف ذلك ، وهو من قوم أمّيين ، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند الله كما قال في الآية الأخرى ، وقد ذكر قصة أبعد الناس زماناً من زمانه ، صلى الله عليه وسلم .

وهو نوح عليه السلام ، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } وفي هذا دليل على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلاَّ من شاهدها ، أو : من قرأها في الكتب السابقة ، أو : من أوحي الله إليه بها .

وقد انتفى العيان والقراءة ، فتعين الثالث وهو الوحي من الله تعالى .

والكاف في : ذلك ، و : إليك ، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والأحسن في الإعراب أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من أنباء الغيب ، خبره .

وأن يكون : نوحيه ، جملة مستأنفة ، ويكون الضمير في : نوحيه ، عائداً على الغيب ، أي : شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ، ولذلك أتى بالمضارع ، ويكون أكثر فائدة من عوده على : ذلك ، إذ يشتمل ما تقدّم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل ، إذ يصير نظير : زيد يطعم المساكين ، فيكون إخباراً بالحالة الدائمة .

والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع ، وإذ يلزم من عوده على : ذلك ، أن يكون : نوحيه ، بمعنى : أوحيناه إليك ، لأن الوحي به قد وقع وانفصل ، فيكون أبعد في المجاز منه إذا كان شاملاً لهذه القصص وغيرها مما سيأتي ، وجوّزوا أن يكون : نوحيه ، خبراً : لذلك ، و : من أنباء ، حال من : الهاء ، في : نوحيه ، أو متعلقاً : بنوحيه .

{ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } هذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى ، والمعلم به قصتان : قصة مريم ، وقصة زكريا .

فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالإخبار أولاً ، وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد ، ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل ، فما خلت من تنبيه على قصة .

ومعنى : { وما كنت لديهم } أي : ما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم .

ونفي المشاهدة ، وإن كانت منتفية بالعلم ولم تنتف القراءة والتلقي ، من حفاظ الأنباء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ ، ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار ، فتعين أن يكون علمه بذلك بوحي من الله تعالى إليه ، ونظيره في قصة موسى : { وما كنت بجانب الغربي } { وما كنت بجانب الطور } وفي قصة يوسف { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم }

والضمير ، في : لديهم ، عائد على غير مذكور ، بل على ما دل عليه المعنى ، أي : وما كنت لدى المتنازعين ، كقوله : { فأثرن به نقعاً } أي : بالمكان .

والعامل في : إذ ، العامل في : لديهم .

وقال أبو علي الفارسي : العامل في : إذ ، كنت . انتهى .

ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة .

لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث ، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا ، فكيف يعمل في ظرف ؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا يعمل فيه ، والمضارع بعد : إذ ، في معنى الماضي ، أي : إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم ، والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة .

وقيل : كانوا يكتبون بها التوراة ، فاختاروها للقرعة تبركاً بها .

وقيل : الأقلام هنا الأزلام ، وهي : القداح ، ومعنى الإلقاء هنا الرمي والطرح ، ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه ، ولا كيفية حال الإلقاء ، كيف خرج قلم زكريا .

وقد ذكرنا فيما سبق شيئاً من ذلك عن المفسرين ، والله أعلم بالصحيح منها .

وقال أبو مسلم : كانت الأمم يكتبون أسماءهم على سهام عند المنازعة ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بها الجزور .

وارتفع { أيهم يكفل مريم } على الابتداء والخبر ، وهو في موضع نصب إما على الحكاية بقول محذوف ، أي : يقولون أيهم يكفل مريم ، وإما بعلة محذوفة أي : ليعلموا أيّهم يكفل ، وإما بحال محذوفة أي : ينظرون أيّهم يكفل ، ودل على المحذوف : { يلقون أقلامهم } وقد استدل بهذه الآية على إثبات القرعة وهي مسألة فقهية تذكر في علم الفقه .

{ وما كنت لديهم إذ يختصمون } أي : بسبب مريم ، ويحتمل أن يكون هذا الاختصام هو الاقتراع ، وأن يكون اختصاماً آخر بعده ، والمقصود شدّة رغبتهم في التكفل بشأنها .

والعامل في : اذ ، العامل في : لديهم ، أو ، كنت ، على قول أبي علي في : إذ يلقون .

/خ44