البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

النداء : رفع الصوت ، وفلان أندى صوتاً ، أي أرفع ، ودار الندوة لأنهم كانوا ترتفع أصواتهم بها ، والمنتدى والنادي مجتمع القوم منه ، ويقال : نادى مناداة ونِداء ونُداء ، بكسر النون وضمها قيل : فبالكسر المصدر ، وبالضم اسم ، وأكثر ما جاءت الأصوات على الضم : كالدُعاء والرُغاء والصُراخ وقال يعقوب : يمد مع كسر النون ، ويقصر مع ضمها .

والندى : المطر ، يقال منه ندى يندى ندى .

يحيي : اسم أعجمي امتنع الصرف للعجمة والعلمية ، وقيل : هو عربي ، وهو فعل مضارع من : حيى ، سمي به فامتنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وعلى القولين يجمع على : يحيون ، بحذف الألف وفتح ما قبلها على مذهب الخليل ، وسيبويه ونقل عن الكوفيين : إن كان عربياً فتحت الياء ، وإن كان أعجمياً ضمت الياء .

سيد : فيعل من : ساد ، أي : فاق في الشرف ، وتقدم الكلام في نظير هذا ، وجمعه على : فعلة ، فقالوا : سادة ، شاذ وقال الراغب : هو السايس بسواد الناس ، أي : معظمهم ، ولهذا يقال : سيد العبد ، ولا يقال سيد الثوب . انتهى .

الحصور : فعول من الحصر ، وهو للمبالغة من حاصر وقيل : فعول بمعنى مفعول ، أي محصور ، وهو في الآية بمعنى الذي لا يأتي النساء .

{ فنادته الملائكة } قيل : النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به ، فلم يكن هذا إخباراً من الملائكة على عرف الوحي ، بل نداءً كما نادى الرجل الأنصاري : كعب بن مالك ، من أعلى الجبل .

قاله ابن عطية ، وغيره .

ولا يظهر ذلك ، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ولغير ذلك ، كما جاء .

« يا أهل النار خلود بلا موت » وجاء : { يا هامان ابن لي صرحاً } وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم { إن الله يبشرك } لا إن لفظ نادته يدل على ذلك ، لا بالوضع ولا بالاستعمال .

ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي ، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه ، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم ، كما يقال لك : بلغ زيداً كذا وكذا ، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا .

وهما قولان للمفسرين .

وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل الله دعاءه ، ووهب له يحيى ، وبعث إليه الملائكة بذلك ، فنادته .

وذكر أنه كان بين دعائه والإستجابة له أربعون سنة ، والظاهر خلاف ذلك .

والظاهر أن مناديه جماعة من الملائكة لصيغة اللفظ ، وقد بعث تعالى ملائكة إلى قوم لوط وإلى إبراهيم وفي غير ما قصة .

وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده ، ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم .

وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل ، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة ، لا يريد خصوصية الجمع ، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع ، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس .

وخرج عليه الذين قال لهم الناس ، وهو نعيم بن مسعود .

وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه ، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه ، المتفرقة في غيره .

فعبر عنه بالكثرة لذلك .

قيل : وجبريل رئيس الملائكة .

وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه ، ممالة وباقي السبعة : فنادته ، بتاء التأنيث و : الملائكة ، جمع تكسير ، فيجوز أن يلحق العلامة ، وإن لا يلحق .

تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال .

وإلحاق العلامة قيل .

أحسن ، ألا ترى : إذ قالت الملائكة ؟ ولما جاءت رسلنا ؟ ومحسِّن الحذف هنا الفصل بالمفعول .

{ وهو قائم يصلي في المحراب } ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ، ويفتح باب المذبح ، فلا يدخلون حتى يؤذن .

فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعنى المسجد عند المذبح ، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، إذا هو برجل عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وهو جبريل : يا زكريا ! إن الله يبشرك .

وقيل : المحراب موقف الإمام من المسجد ، وهو قول جمهور المفسرين .

وقيل : القبلة .

والظاهر أن المحراب هو المحراب الذي قبله في قوله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب } ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة ، فيه دعا ، وفيه جاءته البشارة .

وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم .

وقيل : الصلاة هنا الدعاء ، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه ، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته .

وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول ، أو من الملائكة ، و : يصلي ، يحتمل أن يكون صفة : لقائم ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير المستكن في : قائم ، أو : من ضمير المفعول ، على مذهب من جوّز حالين من ذي حال واحد ، ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً : لهو ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد ، وإن لم تكن في معنى خبر واحد .

ويتعلق : في المحراب ، بقوله : يصلي ، ولا يجوز أن يتعلق : بقائم ، في وجه من احتمالات إعراب : يصلي ، إلا في وجه واحد ، وهو أن يكون : يصلي ، حالاً من الضمير الذي استكن في : قائم ، فيجوز .

لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه وفي : يصلى ، وهو : قائم ، لأن العامل إذ ذاك في الحال هو : قائم ، إذ هو العامل في ذي الحال ، وبه يتعلق المجرور .

وفي قوله : { قائم يصلي في المحراب } قالوا : دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه ، وقد كرهه أبو حنيفة ، وقال : كان ذلك شرعاً لمن قبلنا .

ورقق وَرش راء : المحراب ، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كان : المحراب ، مجروراً ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر .

ولم يقيد بالجر .

{ ان الله يبشرك بيحيى } قرأ ابن عامر ، وحمزة : إن الله ، بكسر الهمزة .

فعند البصريين الكسر على إضمار القول ، أي : وقالت .

وعند الكوفيين لا إضمار ، لأن غير القول مما هو في معناه : كالنداء والدعاء ، يجري مجرى القول في الحكاية ، فكسرت بنادته ، لأن معناه قالت له .

وقرأ الباقون بفتح الهمزة ، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل ، أي بتبشير :

وحين حذفت فالموضع نصب بالفعل أو جر بالباء المحذوفة ، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب .

وقرأ عبد الله : يا زكريا إن الله .

فقوله : يا زكرياء ، هو معمول النداء .

فهو في موضع نصب ، ولا يجوز فتح : إن ، على هذه القراءة ، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه ، وهما : الضمير والمنادى .

وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول ، بل من المرسل .

ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله : يبشرك ؟ وقد قال في سورة مريم : { يا زكريا إنا نبشرك } فأسند ذلك إليه تعالى .

وقرأ حمزة ، والكسائي : يبشرك ، في الموضعين في قصة زكريا وقصة مريم ، وفي الإسراء ، وفي الكهف ، وفي الشورى ، من : بشر ، مخففاً .

وافقهما ابن كثير ، وأبو عمرو في الشورى ، زاد حمزة في الحجر : ألا فبم تبشرون ، ومريم وقرأ الباقون : يبشر ، من بشر المضعف العين وقرأ عبد الله يبشر في جميع القرآن من أبشر ، وهي لغىً ثلاث ذكرها غير واحد من اللغويين وقال الشاعر :

بَشَرْتُ عِيالي إِذ رأيتُ صحيفة *** أتتك من الحجاج يتُلى كتابها

وقال الآخر :

يا بشر حق لوجهك التَّبشير *** هلا غضبت لنا وأنت أمير

بيحيى ، متعلق بقوله : نبشرك ، والمعنى : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، فإن كان أعجمياً فمنع صرفه للعلمية والعجمة ، وإن كان عربياً فللعلمية ووزن الفعل ، كيعمر .

وقد ذكرنا هذا .

وهذا الذي عليه كثير من المفسرين لاحظوا فيه معنى الاشتقاق من الحياة .

قال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان .

وقال الحسن بن المفضل : حيي بالعصمة والطاعة وقال أبو القاسم بن حبيب : سمي يحيى لأنه استشهد ، والشهداء أحياء روي في الحديث : « من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة » وقال مقاتل : سمي يحيى لأنه أحياه بين شيخ وعجوز وقال الزجاج : حي بالعلم والحكمة التي أوتيها وقال ابن عباس : ان الله أحيا به عقر أمّه وقيل : معناه يموت فسمي يحيى تفاؤلاً ، كالمفازة والسليم وقيل : لأن الله أحيا به الناس بالهدى .

{ مصدقا بكلمة من الله } الجمهور على أن الكلمة هو عيسى ، وسيأتي لم سمي كلمة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدّي وغيرهم .

قال الربيع ، وغيره : كان يحيى أوّل من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، قاله الأكثرون وقيل : بثلاث سنين ، وقتل قبل رفع عيسى ، وكانت أمّ يحيى تقول لمريم : إني لأجد الذي في بطني يتحرك ، وفي رواية : يسجد ، وفي رواية : يومي برأسه لما في بطنك ، فذلك تصديقه ، وهو أول التصديق .

وقال أبو عبيدة ، وغيره { بكلمة من الله } أي : بكتاب من الله التوراة والإنجيل وغيرهما ، أوقع المفرد موقع الجمع ، فالكلمة اسم جنس ، وقد سمت العرب القصيدة كلمة روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن الله كلمته ، أي قصيدته .

وفي الحديث : « أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل »

وقيل معنى : { بكلمة من الله } هنا أي : بوعد من الله ، وقرأ أبو السمال العدوي : بكلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل : كتف وكتف ، ووجهه أنه أتبع فاء الكلمة لعينها ، فيقل اجتماع كسرتين ، فسكن العين .

ومنهم من يسكنها مع فتح الفاء استثقالاً للكسرة في العين .

وانتصب : مصدّقاً ، على الحال قال ابن عطية : وهي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

{ وسيدا } قال ابن عباس : السيد الكريم وقال قتادة : الحليم ، ومنه قول الشاعر :

سيد لا تحل حبوته *** بوادر الجاهلين إن جهلوا

وقال عكرمة : من لا يغلبه الغضب وقال الضحاك : الحسن الخلق وقال سالم : التقي وقال ابن زيد : الشريف وقال ابن المسيب : الفقيه العالم وقال أحمد بن عاصم : الراضي بقضاء الله وقال الخليل : المطاع الفائق أقرانه .

وقال أبو بكر الورّاق : المتوكل وقال الترمذي : العظيم الهمة وقال الثوري : السيد مَن لا يحسد من قولهم : الحسود لا يسود وقال أبو إسحاق : السيد الذي يفوق في الخير قومه .

وقال بعض أهل اللغة : السيد المالك الذي تجب طاعته .

ولهذا قيل للزوج : سيد وقيل : سيد الغلام ، وقال سلمة عن الفراء : السيد المالك ، والسيد الرئيس ، والسيد الحكيم ، والسيد السخي .

وجاء في الحديث : « السيد من أعطى مالاً ورزق سماحاً ، فأدنى الفقراء ، وقلت شكايته في الناس » وفي معناه : من بذل معروفه وكف أذاه وقال في الحديث بني سلمة وقد سألهم من سيدكم فقالوا الجدّ بن قيس على بخله فقال عليه السلام : « وأي داء أدوى من البخل ؟ سيدكم عمرو بن الجموح » وسمى أيضاً سعد بن معاذ سيداً في قوله : « قوموا إلى سيدكم » .

أي رئيسكم والمطاع فيكم .

« وسمي الحسن بن علي : سيداً .

في قوله : » إن ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين «

وقال الزمخشري : السيد الذي يسود قومه أي يفوقها في الشرف .

وكان يحيى قائماً لقومه ، قائماً للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط ، ويا لها من سيادة ؟ ! انتهى كلامه .

وقال ابن عطية ما ملخصه : خصه الله بذكر السؤدد ، وهو الاعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، وتفضيله : بذل الندى وهو الكرم ، وكف الأذى وهي العفة في الفرج واليد واللسان ، واحتمال العظائم وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإنقاذ من الهلكات .

وقد يوجد من الثقاة العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز فيها ، فيسمى سيداً وإن قصر في مندوب ، ومكافحة في حق وقلة مبالاة باللائمة .

وقال ابن عمر : ما رأيت أسود من معاوية ؟ قيل له : وأبو بكر وعمر ؟ قال : هما خير منه ، ومعاوية أسود منهما ! انتهى كلامه .

وهذه الأقوال التي ذكرت في تفسير السيد كلها يصلح أن يكون تفسيراً في وصف يحيى عليه السلام ، وأحق الناس بصفات الكمال هم النبيون .

وفي قوله : وسيداً ، دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة ، وهو من أوصاف المدح .

ولا يقال ذلك للظالم والمنافق والكافر .

وورد النهي : » لا تقولوا للمنافق سيداً « ، وما جاء من قوله { أطعنا سادتنا } فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم .

قيل : وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت سيدنا وذو الطول علينا ، فقال صلى الله عليه وسلم : » السيد هو الله ، تكلموا بكلامكم « ، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك ، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر ، وقد سمى هو الحسن بن علي سيداً ، وكذلك سعد بن معاذ ، وعمرو بن الجموح .

{ وحصوراً } هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد ، قال الشاعر :

وحصوراً لا يريد نكاحا ***

لا ولا يبتغي النساء الصِّباحا

وقد روي أنه تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره وقيل : الحاصر نفسه عن الشهوات وقيل : عن معاصي الله وقيل : الحصور الهيوب وقال ابن مسعود أيضاً ، وابن عباس أيضاً ، والضحاك ، والمسيب : هو العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل .

وإيراد الحصور وصفاً في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب ، والذي يقتضيه مقام يحيى عليه السلام أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء وغيرهن ، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك .

قال مجاهد : كان طعام يحيي العشب ، وكان يبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه ، وكان الدمع اتخذ مجرىً في وجهه .

قيل : ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء وغيرهن من شهوات الدنيا .

وقيل : الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر .

قال الأخطل :

وشارب مربح بالكأس نادمني ***

لا بالحصور ولا فيها بسآر

فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو .

وقد روي أنه : مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت .

والحصور والحصِر كما تم السر قال جرير :

ولقد تشاقطني الوشاة فصادفوا ***

حَصِراً بسرك يا أميم ضنينا

وجاء في الحديث عن ابن العاصي ، ما معناه : أن يحيى لم يكن له ما للرجل إلاَّ مثل هذا العود ، يشير إلى عويد صغير .

وفي رواية أبي هريرة : كان ذكره مثل هذه القذاة ، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها .

وقد استدل بقوله { وحصوراً } من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمذهب أبي حنيفة ، فإنه بالعكس .

{ ونبياً } هذا الوصف الأشرف ، وهو أعلى الأوصاف ، فذكر أولاً الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده ، وهو : التصديق الذي هو الإيمان ، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه ، ثم ذكر الزهادة وخصوصاً فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء ، ثم ذكر الرتبة العليا وهي : رتبة النبوّة .

وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف .

مريم عليها السلام ، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة ، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة ، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، فأجابة إلى ذلك ، ووهب له يحيى على وفق ما طلب ، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى ، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة ، وكان يحيى سيداً ، فاشتركا في هذا الوصف .

وكانت مريم عذراء بتولاً لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء .

وكانت مريم أتاها الملك رسولاً من عند الله وحاورها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية ، وكان يحيى نبياً ، وحقيقة النبوّة هو أن يوحي الله إليه ، فقد اشتركا في هذا الوصف .

{ من الصالحين } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء ، كما قال : { ذرية بعضها من بعض } ويحتمل أن يكون المعنى : وصالحاً من جملة الصالحين .

كما قال تعالى في وصف إبراهيم { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } قال ابن الأنباري : معناه من صالحي الحال عند الله قال الكرماني : خص الأنبياء بذكر الصلاح لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك وقال الزجاج : الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم . انتهى .

وقد قال سليمان بعد حصول النبوّة له { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } قيل : وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوّة ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، فمن كان أكثر نصيباً من الصلاح كان أعلى قدراً .

وقال الماتريدي : الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه ، وفي غيرهم لا يتحقق إلاَّ بعضها ، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه ، وفي غيرهم من بعضها ، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوّة في مطلق المؤمنين ، فكان تقييده باسم الصلاح مفيداً .

وقيل : من الصالحين في الدنيا والآخرة ، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان ، والأمن من خوف الخاتمة .

/خ41