البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِۗ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (24)

{ الذين يبخلون } : أي هم الذين يبخلون ، أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره : مذمومون ، أو موعودون بالعذاب ، أو مستغنى عنهم ، أو على إضمار ، أعني فهو في موضع نصب ، أو في موضع نصب صفة لكل مختال ، وإن كان نكرة ، فهو مخصص نوعاً مّا ، فيسوغ لذلك وصفة بالمعرفة .

قال ابن عطية : هذا مذهب الأخفش . انتهى .

عظمت الدنيا في أعينهم ، فبخلوا أن يؤدوا منها حقوق الله تعالى ، وما كفاهم ذلك حتى أمروا الناس بالبخل ورغبوهم في الإمساك ، والظاهر أنهم أمروا الناس حقيقة .

وقيل : كانوا قدوة فيه ، فكأنهم يأمرون به .

{ ومن يتول } عن ما أمر الله به .

وقرأ الجمهور : { فإن الله هو } ؛ وقرأ نافع وابن عامر : بإسقاط هو ، وكذا في مصاحف المدينة والشام ، وكلتا القراءتين متواترة .

فمن أثبت هو ، فقال أبو علي الفارسي : يحسن أن يكون فصلاً ، قال : ولا يحسن أن يكون ابتداء ، لأن حذف الابتداء غير سائغ . انتهى .

يعني أنه في القراءة الأخرى حذف ، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه ، لأنك إذا قلت : إن زيداً هو الفاضل ، فأعربت هو مبتدأ ، لم يجز حذفه ، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبراً لأن ، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط .

ونظيره : { الذين هم يراءون } لا يجوز حذف هم ، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة ، فلا يبقى دليل على المحذوف .

وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء ، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى ، وليس كذلك .

ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد ، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر ، كقراءة من قرأ :

{ والله أعلم بما وضعت } بضم التاء ، والقراءة الأخرى : { بما وضعت } بتاء التأنيث فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم ، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام الله تعالى ، وهذا كثير في القراءات المتواترة .

فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته ، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى ، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه .