تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِۗ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (24)

الآية 24 وقوله تعالى : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } جائز أن يكون هذا صلة قوله : { و الله لا يحب كل مختال فخور } وتفسيرا{[20682]} له .

وجائز أن يكون على الابتداء ، وهو كقوله تعالى : { وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفرا أنهم أصحاب النار } { الذين يحملون العرش ومن حوله } [ غافر : 6 و7 ] كأن قوله تعالى : الذين يحملون العرش مفصولا من الأول . وكذلك هذا .

ثم قوله تعالى : { يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } يحتمل ما ذكر من بخلهم في آية أخرى ، فقال : { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين أمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } [ يس : 47 ] بخلوا بالإنفاق على المؤمنين ، أو بخلوا بالإنفاق على أتباعهم ليبقى الكرم والرئاسة عليهم .

وجائز أن يكون ما ذكره بعض أهل التأويل أن ذلك نزل في الرؤساء من أهل الكتاب ؛ بخلوا ببيان بعث{[20683]} محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان في كتبهم ، وأمروا أمثالهم وأشكالهم بكتمان ذلك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } أي ومن يعرض عن ذلك فالله هو الغني الحميد ؛ الغني عن عبادتكم وعما دعاكم إليه ؛ إذ لم يدعكم إلى ما دعاكم لحاجة نفسه ؛ إذ هو الغني بذاته ، الحميد بفعاله ، أي بما علم منكم من الرد لرسالته ، لا يخرج فعله من أن يكون محمودا ، ولا يصير لفعله إلى أعدائه بما صنع غير حميد ، والله أعلم .

ثم في قوله تعالى : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم } وجوه أيضا :

أحدها : أن المصائب ربما تجري على أيدي الناس ، وتصيبهم منهم ، فقال : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم } ما جرى على أيدي الناس لئلا يزول ، فيحملكم ذلك على العداوة والبغضاء ، ولكن يرون ذلك مكتوبا عليهم من الله تعالى وكذلك ما ذكر في ما يؤتيهم من النعم على أيدي الخلق ، فلا يزال ذلك منهم فيشغلهم عن القيام بشكر الرب ، جل ، وعلا ، ولكن يزول من فضل الله تعالى ومنه ، فيشكرونه .

والثاني : يحتمل أن يكون النهي عن الحزن أمرا بالفرح ، أي لا تأسوا على ما فاتكم ، ولكن افرحوا بما لعل الذي [ فاتكم لو لم يفتكم لكان يشغلكم ]{[20684]} عن القيام بحقوق الله تعالى وأداء ما عليكم{[20685]} من الفرائض ، والله أعلم .

وفي قوله تعالى : { ولا تفرحوا بما آتاكم } أمر بالحزن ، وقد يذكر [ نفي ]{[20686]} الشيء ، ويراد به إثبات ضده كقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] أي خسرت تجارتهم . وينبغي أن تتلقى نعم الله على وجهين :

أحدهما : بحسن القبول لها والتعظيم والشكر للمنعم إذ أغناه بذلك عن النظر بما في أيدي الناس ودفع الحاجة ، وذلك من أعظم [ النعم ]{[20687]} .

والثاني : بالخوف{[20688]} لما لعله فعل ذلك به استدراجا وامتحانا ، إذ الأموال ربما تكون فتنة وبلاء ، أو تشغله عن أداء ما عليه ، إذ كان سبب استدراجه وبلائه ، فأخذ منه ، أو لما يحصل{[20689]} بذهابه إلى أداء الفرائض من العبادات ، وكان ذلك يمنعه ، ويحزنه من وجهين أيضا :

أحدها : لما لعل قوته يحوجه إلى ما في أيدي الناس ، وكان غنيا عنهم .

[ والثاني ]{[20690]} : لما لعل ذلك عقوبة لتفريط كان منه كقوله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] والله أعلم .

ثم أضاف ما نالوا من النعم إلى نفسه حين{[20691]} قال : { ولا تفرحوا بما آتاكم } ولم يضف ما فاتهم إلى نفسه ، وهو كما قال في آية أخرى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] .

وهو ما ذكرنا أنه جائز أن يكون ما يفوتهم من النعم باكتساب وبسبب كان منهم ، والله أعلم .


[20682]:الواو ساقطة من الأصل و م.
[20683]:في الأصل و م: صفة.
[20684]:في الأصل و م: فاتهم لو يفتهم لكان يشغلهم.
[20685]:في الأصل و م: عليهم.
[20686]:ساقطة من الأصل و م.
[20687]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
[20688]:في الأصل و م: يخاف.
[20689]:في الأصل و م: يصل.
[20690]:في الأصل و م: أو
[20691]:في الأصل و م: حيث.