البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

{ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } تقدم مدلول الفتنة وشرحت هنا بحب الشيء والإعجاب به كما تقول : فتنت بزيد فعلى هذا يكون المعنى ، ثم لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبرؤ منها والإنكار لها ، وفي هذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدّعي مودّة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودّتك لفلان إلا أن عاديته وباينته والمعنى على { ثم لم تكن } بمعنى مودّتهم وإعجابهم بالأصنام إلا البراءة منهم باليمين المؤكدة لبراءتهم ، وتكون الفتنة واقعة في الدنيا وشرحت أيضاً بالاختبار والمعنى : ثم لم يكن اختبارنا إياهم إذ السؤال عن الشركاء وتوقيفهم اختبار لإنكارهم الإشراك وتكون الفتنة هنا واقعة في القيامة ، أي : ثم لم يكن جواب اختبار نالهم بالسؤال عن شركائهم إلا إنكار التشريك ؛ انتهى ، ملخصاً من كلام ابن عطية مع بعض زيادة .

وقال الزمخشري : { فتنتهم } كفرهم والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به ، وقالوا : دين آبائنا إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به ، ويجوز أن يراد ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا : فسمى فتنة لأنه كذب ؛ انتهى .

والشرح الأول من شرح ابن عطية معناه للزجاج والأول من تفسير الزمخشري لفظه للحسن ، ومعناه لابن عباس والثاني لمحمد بن كعب وغيره .

قال : التقدير ثم لم يكن جوابهم { إلا أن قالوا } وسمي هذا القول فتنة لكونه افتراءً وكذباً .

وقال الضحاك : الفتنة هنا الإنكار أي ثم لم يكن إنكارهم .

وقال قتادة : عذرهم .

وقال أبو العالية : قولهم .

وقال عطاء وأبو عبيدة : بينتهم وزاد أبو عبيدة التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة .

وقيل : حجتهم ، والظاهر أن الضمير عائد على المشركين وأنه عام فيمن أشرك .

وقال الحسن : هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا ، وقيل : هم قوم كانوا مشركين ولم يعلموا أنهم مشركون فيحلفون على اعتقادهم في الدنيا .

وقرأ الجمهور { ثم لم تكن } وحمزة والكسائي بالياء وأبي وابن مسعود والأعمش وما كان فتنتهم ، وطلحة وابن مطرف ثم ما كان والابنان وحفص { فتنتهم } بالرفع وفرقة ثم لم يكن بالياء ، و { فتنتهم } بالرفع وإعراب هذه القراءات واضح والجاري منها على الأشهر قراءة ثم لم يكن { فتنتهم } بالياء بالنصب ، لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا إن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما دونه هو الخبر ، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله تعالى : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا } { وما كان حجتهم إلا أن قالوا } ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث الفتنة مجازياً أو لوقوعها من حيث المعنى على مذكر ، والفتنة اسم يكن والخبر { إلا أن قالوا } جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ { ثم لم تكن } بالتاء ورفع الفتنة فأنث لتأنيث الفتنة والإعراب كإعراب ما تقدم قبله ، ومن قرأ { ثم لم تكن } بالتاء { فتنتهم } بالنصب فالأحسن أن يقدر { إلا أن قالوا } مؤنثاً أي { ثم لم تكن فتنتهم } إلا مقالتهم .

وقيل : ساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى .

قال أبو علي : وهذا كقوله تعالى : { فله عشر أمثالها } فأنث الأمثال لما كانت الحسنات في المعنى .

وقال الزمخشري : وقرىء { تكن } بالتاء و { فتننتهم } بالنصب وإنما أنث { أن قالوا } لوقوع الخبر مؤنثاً كقوله : من كانت أمك ؛ انتهى .

وتقدم لنا أن الأولى أن يقدر { أن قالوا } بمؤنث أي إلا مقالتهم .

وكذا قدره الزجاج بمؤنث أي مقالتهم ، وتخريج الزمخشري ملفق من كلام أبي علي وأما من كانت أمك فإنه حمل اسم كان على معنى من ، لأن من لها لفظ مفرد ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر نحو

{ ومنهم من يستمعون إليك } ونكن مثل من يا ذئب يصطحبان .

ومن تقنت في قراءة التاء فليست تأنيث كانت لتأنيث الخبر وإنما هو للحمل على معنى من حيث أردت به المؤنث وكأنك قلت أية امرأة كانت أمك .

وقرأ الأخوان { والله ربنا } بنصب الباء على النداء أي يا ربنا ، وأجاز ابن عطية فيه النصب على المدح وأجاز أبو البقاء فيه إضمار أعني وباقي السبعة بخفضها على النعت ، وأجازوا فيه البدل وعطف البيان .

وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين والله ربنا برفع الاسمين .

قال ابن عطية : وهذا على تقديم وتأخير أنهم قالوا : { ما كنا مشركين } { والله ربنا } ومعنى { ما كنا مشركين } جحدوا إشراكهم في الدنيا ، روي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم ؟ فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان وهذا الذي روي مخالف لظاهر الآية ، وهو { ويوم نحشرهم جميعاً } ثم نقول فظاهره أنه لا يتراخى القول عن الحشر هذا التراخي البعيد من دخول العصاة المؤمنين النار وإقامتهم فيها ما شاء الله وإخراجهم منها ، ثم بعد ذلك كله يقال لهم أين شركاؤكم ؟ وأتى رجل إلى ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : { والله ربنا ما كنا مشركين } وفي أخرى { ولا يكتمون الله حديثاً } فقال ابن عباس : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا : تعالوا فلنجحد وقالوا : { ما كنا مشركين } فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثاً .