البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنۡـَٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ} (26)

نأى نأياً بعد وتعديته لمفعول منصوب بالهمزة لا بالتضعيف ، وكذا ما كان مثله مما عينه همزة .

{ وهم ينهون عنه وينأون عنه } روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب ، كان ينهى المشركين أن يؤذوا الرسول وأتباعه وكانوا يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون سوءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقال أبو طالب :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت ديناً لا محالة أنه *** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

وقال محمد بن الحنفية والسدي والضحاك : نزلت في كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع الرسول ويتباعدون بأنفسهم عنه ، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي ، والظاهر أن الضمير في قوله : { وهم } يعود على الكفار وهو قول الجمهور ، واختاره الطبري وفي قوله : { عنه } يعود إلى القرآن وهو الذي عاد عليه الضمير المنصوب في { يفقهوه } وهو المشار إليه بقولهم { إن هذا } وهو قول قتادة ومجاهد ، والمعنى أنهم { ينهون } غيرهم عن اتباع القرآن وتدبر و { ينأون } بأنفسهم عن ذلك .

وقيل : الضمير في { عنه } عائد على الرسول إذ تقدم ذكره في قوله : { ومنهم من يستمع إليك وحتى إذا جاؤوك يجادلونك } فيكون ذلك التفاتاً وهو خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير في { وهم } عائد على الكفار المتقدم ذكرهم ، والمعنى أنهم جمعوا بين تباعدهم عن الرسول بأنفسهم ونهى غيرهم عن اتباعه فضلوا وأضلوا ، وتقدم أن هذا القول هو أحد ما ذكر في سبب النزول .

وقيل : الضمير في { وهم } عائد على أبي طالب ومن وافقه على حماية الرسول والضمير في { عنه } عائد على الرسول ، والمعنى { وهم ينهون عنه } من يريد إذايته ويبعدون عنه بترك إيمانهم به واتباعهم له فيفعلون الشيء وخلافه ، وهو قول ابن عباس وأيضاً والقاسم بن محمد وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار ومقاتل وهذا القول أحد ما ذكر في سبب النزول ونسبة هذا إلى أبي طالب وتابعيه بلفظ { وهم } الظاهر عوده على جماعة الكفار وجماعتهم لم ينهوا عن إذاية الرسول هي نسبة لكل الكفار بما صدر عن بعضهم ، فخرجت العبارة عن فريق منهم بما يعم جميعهم لأن التوبيخ على هذه الصورة أشنع وأغلظ حيث ينهون عن إذايته ويتباعدون عن اتباعه وهذا كما تقول في التشنيع على جماعة منهم سراق ومنهم زناة ومنهم شربة خمر ، هؤلاء سراق وزناة وشربة خمر وحقيقته أن بعضهم يفعل ذا وبعضهم ذا وكان المعنى ومنهم من يستمع ومنهم من ينهى عن إذايته ويبعد عن هدايته وفي قوله : { ينهون وينأون } تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردت بالها { وينأون } انفردت بالهمزة ومنه { وهم يحسبون أنهم يحسنون } ويفرحون ويمرحون والخيل معقود في نواصيها الخير ، وفي كتاب التحبير سماه تجنيس التحريف وهو أن يكون الحرف فرقاً بين الكلمتين .

وأنشد عليه :

إن لم أشن على ابن هند غارة *** لنهاب مال أو ذهاب نفوس

وذكر غيره أن تجنيس التحريف ، هو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين كقول بعض العرب : وقد مات له ولد اللهم أني مسلم ومسلم .

وقال بعض العرب : اللهي تفتح اللهى .

وقرأ الحسن وينون بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على النون وهو تسهيل قياسي .

{ وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } قبل هذا محذوف تقديره { وهم ينهون عنه وينأون عنه } أي عن الرسول أو القرآن قاصدين تخلّي الناس عن الرسول فيهلكونه وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم ، وليس المراد بالهلاك الموت بل الخلود في النار { وإن } نافية بمعنى ما ونفي الشعور عنهم بإهلاكهم أنفسهم مذمة عظيمة لأنه أبلغ في نفي العلم إذ البهائم تشعر وتحس فوبال ما راموا حل بأنفسهم ولم يتعد إلى غيرهم .