البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنفال

هذه السورة مدنية كلها . قال ابن عباس : إلا سبع آيات أوّلها

{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ }

إلى آخر الآيات . وقال مقاتل غير آية واحدة وهي { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية نزلت في قصة وقعت بمكّة ويمكن أن تنزل الآية بالمدينة في ذلك ولا خلاف أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه وقد طول المفسرون الزمخشري وابن عطيّة وغيرهما في تعيين ما كان سبب نزول هذه الآيات وملخّصها : أنّ نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثَرة والاختصاص ، ونحن لا نسمي من أبلي ذلك اليوم فنزلت ورضي المسلمون وسلموا وأصلح الله ذات بينهم واختلف المفسّرون في المراد بالأنفال . فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد : يعني الغنائم مجملة قال عكرمة ومجاهد : كان هذا الحكم من الله لدفع الشغب ثم نسخ بقوله :

{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شيء }

الآية . وقال أبو زيد لا نسخ إنما أخبر أنّ الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبيّن لحكم الله والمضارع فيها ليقع التسليم فيها من الناس وحكم القسمة قاتل خلال ذلك ، وقال ابن عباس أيضاً : الأنفال في الآية ما يعطيه الإمام لمن أراد من سيف أو فرس أو نحوه ، وقال علي بن صالح وابن جني والحسن : الأنفال في الآية الخمس ، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً : الأنفال في الآية ما شذّ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس الغائر والعبد الآبق وهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما يشاء ، وقال ابن عباس أيضاً : الأنفال في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة . وهذه الأقوال الأربعة مخالفة لما تظافرت عليه أسباب النزول المروية والجيّد هو القول الأول وهو الذي تظاهرت الروايات به ،

النفل : الزيادة على الواجب وسميت الغنيمة به لأنها زيادة على القيام بحماية الحوزة قال لبيد :

إنّ تقوى ربّنا خير نفل *** وبإذن الله ريثي وعجل

أي خير غنيمة وقال غيره :

إنّا إذا احمرّ الوغاء ذوي الغنى *** ونعف عند مقاسم الأنفال

{ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } هذه السورة مدنية كلها .

قال ابن عباس : إلا سبع آيات أوّلها { وإذ يمكر بك الذين كفروا } إلى آخر الآيات .

وقال مقاتل غير آية واحدة وهي { وإذ يمكر بك الذين كفروا } الآية نزلت في قصة وقعت بمكّة ويمكن أن تنزل الآية بالمدينة في ذلك ولا خلاف أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه وقد طول المفسرون الزمخشري وابن عطيّة وغيرهما في تعيين ما كان سبب نزول هذه الآيات وملخّصها : أنّ نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثَرة والاختصاص ، ونحن لا نسمي من أبلي ذلك اليوم فنزلت ورضي المسلمون وسلموا وأصلح الله ذات بينهم واختلف المفسّرون في المراد بالأنفال .

فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد : يعني الغنائم مجملة قال عكرمة ومجاهد : كان هذا الحكم من الله لدفع الشغب ثم نسخ بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية .

وقال أبو زيد لا نسخ إنما أخبر أنّ الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبيّن لحكم الله والمضارع فيها ليقع التسليم فيها من الناس وحكم القسمة قاتل خلال ذلك ، وقال ابن عباس أيضاً : { الأنفال } في الآية ما يعطيه الإمام لمن أراد من سيف أو فرس أو نحوه ، وقال علي بن صالح وابن جني والحسن : { الأنفال } في الآية الخمس ، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً : { الأنفال } في الآية ما شذّ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس الغائر والعبد الآبق وهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما يشاء ، وقال ابن عباس أيضاً : الأنفال في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة .

وهذه الأقوال الأربعة مخالفة لما تظافرت عليه أسباب النزول المروية والجيّد هو القول الأول وهو الذي تظاهرت الروايات به ، وقال الشعبي : { الأنفال } الأسرى وهذا إنما هو منه على جهة المثال وقد طول ابن عطية وغيره في أحكام ما ينقله الإمام وحكم السّلب وموضوع ذلك كتب الفقه وضمير الفاعل في { يسألونك } ليس عائداً على مذكور قبله إنما يفسّره وقعة بدر ، فهو عائد على من حضرها من الصحابة وكان السائل معلوم معين ذلك اليوم فعاد الضمير عليه والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والسؤال قد يكون لاقتضاء معنى في نفس المسؤول فيتعدى إذ ذاك بعن كما قال :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم *** وقال تعالى : { يسألونك عن الساعة } { يسألونك عن الشهر الحرام } وكذا هنا { يسألونك عن الأنفال } حكمها ولمن تكون ولذلك جاء الجواب { قل الأنفال لله والرسول } وقد يكون السؤال لاقتضاء مال ونحوه فيتعدى إذ ذاك لمفعولين تقول سألت زياداً مالاً وقد جعل بعض المفسرين السؤال هنا بهذا المعنى وادعى زيادة { عن } ، وأن التقدير يسألونك الأنفال ، وهذا لا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وينبغي أن تحمل قراءة من قرأ بإسقاط عن على إرادتها لأن حذف الحرف ، وهو مراد معنى ، أسهل من زيادته لغير معنى غير التوكيد وهي قراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وولديه زيد ومحمد الباقر وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء والضحاك وطلحة بن مصرف .

وقيل { عن } بمعنى من أي يسألونك من الأنفال ولا ضرورة تدعو إلى تضمين الحرف معنى الحرف ، وقرأ ابن محيصن علنفال نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وحذف الهمزة واعتدّ بالحركة المعارضة فأدغم نحو ، وقد تبين لكم .

ومعنى { قل الأنفال لله والرسول } ليس فيها لأحد من المهاجرين ولا من الأنصار ولا فوض إلى أحد بل ذلك مفوض لله على ما يريده وللرسول حيث هو مبلغ عن الله الأحكام وأمرهم بالتقوى ليزول عنهم التخاصم ويصيروا متحابين في الله وأمر بإصلاح ذات البَين وهذا يدلّ على أنه كانت بينهم مباينة ومباعدة ربما خيف أن تفضي بهم إلى فساد ما بينهم من المودة والمعافاة ، وتقدم الكلام على { ذات } في قوله { بذات الصدور } ، والبين هنا الفراق والتباعد و { ذات } هنا نعت لمفعول محذوف أي { وأصلحوا } أحوالاً { ذات } افتراقكم لما كانت الأحوال ملابسةً للبين أُضيفت صفتها إليه كما تقول اسقني ذا إنائك أي ماء صاحب إنائك لما لابس الماء الإناء وصف بذا وأُضيف إلى الإناء والمعنى اسقني ما في الإناء من الماء .

قال ابن عطية : و { ذات } في هذا الموضع يُراد بها نفس الشيء وحقيقته والذي يفهم من بينكم هو معنى يعمّ جميع الوصل والالتحامات والمودّات وذات ذلك هو المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه فخضّ الله على إصلاح تلك الأجزاء وإذا حصلت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم ، وقد تُستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما يضاف إليه وإن لم يكن نفسه وعينه وذلك في قوله { عليم بذات الصدور } و { ذات الشوكة } ويحتمل ذات البين أن تكون هذه وقد يقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم ومنه قول الشاعر :

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة *** ذات العشاء ولا تسري أفاعيها

وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال { ذات بينكم } الحال التي بينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء ووجهه الطبري ، وهو قول بين الانتقاض انتهى وتلخص أن البين يطلق على الفراق ويطلق على الوصل وهو قول الزجاج هنا قال ومثله { لقد تقطّع بينُكم } ويكون ظرفاً بمعنى وسط ، ويحتمل { ذات } أن تضاف لكل واحد من هذه المعاني وإنما اخترنا في أنه بمعنى الفراق لأن استعماله فيه أشهر من استعماله في الوصل ولأن إضافة ذات إليه أكثر من إضافة ذات إلى بين الظرفية لأنها ليست كثيرة التصرف بل تصرّفها كتصرّف أمام وخلف وهو تصرّف متوسط ليس بكثير ، وأمر تعالى أولاً بالتقوى لأنها أصل للطاعات ثم بإصلاح ذات البين لأنّ ذلك أهم نتائج التقوى في ذلك الوقت الذي تشاجروا فيه ، ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله فيما أمركم به من التقوى والإصلاح وغير ذلك ومعنى { إن كنتم مؤمنين } أي كنتم كاملي الإيمان ، وتسنن هنا الزمخشري واضطرب فقال : وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان وموجباته ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ومعنى { إن كنتم مؤمنين } إن كنتم كاملي الإيمان .

قال ابن عطية : كما يقول الرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كاملَ الرجوليّة ، قال : وجواب الشرط في قوله المتقدم { وأطيعوا } هذا مذهب سيبويه ومذهب أبي العباس أن الجوابَ محذوف متخر يدلّ عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين { أطيعوا } ومذهبه في هذا أن لا يتقدّم الجواب على الشرط انتهى .

والذي مخالف لكلام النحاة فإنهم يقولون إن مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن مذهب أبي العباس وأبي زيد الأنصاري والكوفيين جواز تقديم جواب الشرط عليه وهذا النقل هو الصحيح .