البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{كَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنكُمۡ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرَ أَمۡوَٰلٗا وَأَوۡلَٰدٗا فَٱسۡتَمۡتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمۡ فَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِخَلَٰقِكُمۡ كَمَا ٱسۡتَمۡتَعَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُم بِخَلَٰقِهِمۡ وَخُضۡتُمۡ كَٱلَّذِي خَاضُوٓاْۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (69)

{ كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } : هذا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب .

قال الفراء : التشبيه من جهة الفعل أي : فعلتم كأفعال الذين من قبلكم فتكون الكاف في موضع نصب .

وقال الزجاج : المعنى وعد كما وعد الذين من قبلكم ، فهو متعلق بوعد .

وقال ابن عطية : وفي هذا قلق .

وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون متعلقة بيستهزؤون ، وهذا فيه بعد .

وقيل : في موضع رفع التقدير أنتم كالذين .

والتشبيه وقع في الاستمتاع والخوض .

وقوله : كانوا أشد ، تفسير لشبههم بهم ، وتمثيل لفعلهم بفعلهم .

والخلاق : النصيب أي : ما قدر لهم .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : أي فائدة في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم ، وقوله : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن عنه ، كما أغنى كالذي خاضوا ؟ ( قلت ) : فائدته أنْ قدم الأولين بالاستمتاع ما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائهم ، فشبهوا بهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الراضي به ، ثم شبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم كما يريد أن ينبه بعض الظلمة على سماجة فعله فيقول : أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف ، وأنت تفعل مثل فعله .

وأما وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى .

يعني : استغنى عن أن يكون التركيب ، وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا .

قال ابن عطية : كانوا أشد منكم وأعظم فعصوا فهلكوا ، فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والمعنى : عجلوا حظهم في دنياهم ، وتركوا باب الآخرة ، فاتبعتموهم أنتم انتهى .

ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد ، واستمتاعهم بما قدّر لهم من الأنصباء ، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم ، وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير ، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم ، كذلك بدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى : { يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً } وكقوله : { إن المنافقين هم الفاسون } ولم يأت التركيب أنه كان ، ولا أنهم هم .

وخضتم : أي دخلتم في اللهو والباطل ، وهو مستعار من الخوض في الماء ، ولا يستعمل إلا في الباطل ، لأنّ التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام ، وأمور الباطل إنما هي خوض .

ومنه : رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة .

كالذي خاضوا : أي كالخوض الذي خاضوا قاله الفراء .

وقيل : كالخوض الذين خاضوا .

وقيل : النون محذوفة أي : كالذين خاضوا ، أي كخوض الذين .

وقيل : الذي مع ما بعدها يسبك منهما مصدر أي : كخوضهم .

والظاهر أنّ أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدّة وكثرة الأموال والأولاد ، والمعنى : وأنتم كذلك يحبط أعمالكم .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بأولئك المنافقين المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويكون الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول .

وقوله : في الدنيا ما يصيبهم في الدنيا من التعب وفساد أعمالهم ، وفي الآخرة نار لا تنفع ولا يقع عليها جزاء .

ويقوي الإشارة بأولئك إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة { أَلَمْ يَأْتِهِمْ } فتأمله انتهى .

وقال الزمخشري : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، نقيض قوله تعالى : { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين }