يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد ، وجعلوا لها نصيبا مما رزقهم الله فقالوا : { هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ [ بغير علم ]{[16491]} وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ } [ الأنعام : 136 ] ، أي : جعلوا لآلهتهم نصيبًا مع الله ، وفضلوهم{[16492]} أيضًا على جانبه ، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه ، وائتفكوه ، وليقابلنهم{[16493]} عليه ، وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم ، فقال : { تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } .
عطف حالة من أحوال كفرهم لها مساس بما أنعم الله عليهم من النّعمة ، فهي معطوفة على جملة { وما بكم من نعمة فمن الله } [ سورة النحل : 53 ] . ويجوز أن تكون حالاً من الضمير المجرور في قوله تعالى : و{ ما بكم من نعمة } على طريق الالتفات . ويجوز أن تكون معطوفة على { يشركون } من قوله تعالى : { إذا فريق منكم بربهم يشركون } [ سورة النحل : 54 ] .
وما حكي هنا هو من تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربّهم ، إذ جعلوا في أموالهم حقاً للأصنام التي لم ترزقهم شيئاً . وقد مرّ ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [ سورة النحل : 136 ] .
إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النّعمة ، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم وإن كان كل ذلك منكَراً عليهم ، إلا أن بعض الكفر أشدّ من بعض .
والجعل : التصيير والوضع . تقول : جعلت لك في مالي كذا . وجيء هنا بصيغة المضارع للدّلالة على تجدّد ذلك منهم واستمراره ، بخلاف قوله تعالى : { وأقسموا بالله } [ سورة النحل : 38 ] بأنه حكاية قضية مضت من عنادهم وجدالهم في أمر البعث .
ومفعول { يعلمون } محذوف لظهوره ، وهو ضمير ( ما ) ، أي لا يعلمونه . ومثل حذف هذا الضمير كثير في الكلام .
وما صدق صلة { ما لا يعلمون } هو الأصنام ، وإنما عبّر عنها بهذه الصّلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم ، إذ يفرضون في أموالهم عطاءً يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بَلْه مبلغغِ ما ينالهم منها ، وتخيّلات يتخيّلونها ليست من الوجود ولا من الإدراك ولا من الصلاحية للانتفاع في شيء ، كما قال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميّتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } . وضمير { تعلمون } [ سورة الحجر : 55 ] عائد إلى معاد ضمير { يجعلون } .
ووصف النصيب بأنه { مما رزقناهم } لتشنيع ظلمهم إذ تركوا المنعم فلم يتقرّبوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج ، وأنفقوا ذلك في التقرّب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئاً .
ثم وجه الخطاب إليهم على طريقة الالتفات لقصد التهديد . ولا مانع من الالتفات هنا لعدم وجود فاء التفريع كما في قوله تعالى : { فتمتعوا } [ سورة النحل : 55 ] .
وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه ، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث وهم ينكرونه فناسب أن يؤكّد .
والقسم بالتاء يختصّ بما يكون المقسم عليه أمراً عجيباً ومستغرباً ، كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض } في سورة يوسف ( 73 ) . وسيأتي في قوله تعالى : { وتالله لأكيدن أصنامكم } في سورة الأنبياء ( 57 ) . فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالاً عجيباً بمقدار غرابة الجُرم المسؤول عنه .
والسؤال كناية عما يترتّب عليه من العقاب ، لأن عقاب العادل يكون في العرف عقب سؤال المجرم عمّا اقترفه إذ لعلّ له ما يدفع به عن نفسه ، فأجرى الله أمر الحساب يوم البعث على ذلك السَنن الشريف . والتعبير عنه { بكنتم تفترون } كناية عن استحقاقهم العقاب لأن الكذب على الله جريمة .
والإتيان بفعل الكون وبالمضارع للدّلالة على أن الافتراء كان من شأنهم ، وكان متجدداً ومستمراً منهم ، فهو أبلغ من أن يقال : عمّا تفترون ، وعمّا افتريتم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لما لا يعلمون} من الآلهة أنها آلهة،
{نصيبا مما رزقناهم}، من الحرث والأنعام،
{تالله}، قل لهم يا محمد: والله
{عما كنتم تفترون}، حين زعمتم أن الله أمركم بتحريم الحرث والأنعام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويجعل هؤلاء المشركون من عَبَدة الأوثان، لما لا يعلمون منه ضرّا ولا نفعا "نَصِيبا"، يقول: حظّا وجزاء مما رزقناهم من الأموال، إشراكا منهم له الذي يعلمون أنه خلقهم، وهو الذي ينفعهم ويضرّهم دون غيره...
"تاللّهِ لَتُسْئَلُنّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ"، يقول تعالى ذكره: والله أيها المشركون الجاعلون الآلهة [لعلها للآلهة] والأنداد نصيبا فيما رزقناكم شركا بالله وكفرا، ليسألنكم الله يوم القيامة عما كنتم في الدنيا تفترون، يعني: تختلقون من الباطل والإفك على الله بدعواكم له شريكا، وتصييركم لأوثانكم فيما رزقكم نصيبا، ثم ليعاقبنكم عقوبة تكون جزاء لكفرانكم نعمه، وافترائكم عليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: {تالله لتسألن عما كنتم تفترون} يحتمل السؤال الجزاء، أي: تالله لتجزون {عما كنتم تفترون}. يحتمل السؤال: (سؤال) حجة، (أي يسألون) على ما ادعوا على الله من الأمر الحجة على ذلك، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى: إن هؤلاء الكفار "يجعلون لما لا يعلمون نصيبا"، معناه: إنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضر، ولا ينفع "نصيبا مما رزقناهم "يتقربون إليه، كما يجب أن يتقربوا إلى الله تعالى... وإنما كان سؤال التوبيخ؛ لأنه لا جواب لصاحبه إلا ما يظهر به فضيحته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي لآلهتهم. ومعنى لا يعلمونها: أنه يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله، وليس كذلك. وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع، فهم إذاً جاهلون بها، وقيل: الضمير في {لاَّ يَعْلَمُونَ} للآلهة، أي: لأشياء غير موصوفة بالعلم، ولا تشعر، أجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقرباً إليهم.
{لَتُسْئَلُنَّ}، وعيد. {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} من الإفك في زعمكم أنها آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لما لا يعلمون}، يريد الأصنام، ومعناه: لا يعلمون فيهم حجة ولا برهاناً،... و «النصيب» المشار إليه، هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها والإهداء إليها، والقسم لها من الغلات،... ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام، أن يقسم لهم أنهم سيسألون على افترائهم، في أن تلك السنن هي الحق الذي أمر الله به، كما قال بعضهم، و «الفرية»: اختلاق الكذب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما هددهم بإشراكهم المستلزم لكفر النعمة، أتبعه عجباً آخر من أمرهم، فقال عاطفاً على قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}: {ويجعلون}، أي: على سبيل التكرير. {لما لا يعلمون} مما يعبدونه من الأصنام وغيرها، لكونه في حيز العدم في نفسه، وعدماً محضاً بما وصفوه به، كما قال تعالى: {أم تنبئونه بما لا يعلم} [الرعد:33]. {نصيباً مما رزقناهم} بما لنا من العظمة، من الحرث والأنعام وغير ذلك، تقرباً إليها، كما مضى شرحه في الأنعام، ولك أن تعطفه -وهو أقرب- على {يشركون}، فيكون داخلاً في حيز "إذا"، أي: فاجأوا مقابلة نعمته في الإنجاء بالإشراك والتقرب برزقه، إلى ما الجهل به خير من العلم به؛ لأنه عدم؛ لأنه لا قدرة له ولا نفع في المقام الذي أقاموه فيه، ثم التفت إليهم التفاتاً، مؤذناً بما يستحق على هذا الفعل من الغضب، فقال تعالى: {تالله}، أي: الملك الأعظم. {لتسئلن} يوم الجمع {عما كنتم}، أي: كوناً هو في جبلاتكم. {تفترون}، أي: تتعمدون في الدنيا من هذا الكذب، سؤال توبيخ، وهو الذي لا جواب لصاحبه إلا بما فيه فضيحته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما يزال أناس بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت، يجعلون نصيبا من رزق الله لهم موقوفا على ما يشبه آلهة الجاهلية... وما يزال بعضهم ينذرون للأولياء ذبائح يخرجونها من ذمتهم لا لله، ولا باسم الله، ولكن باسم ذلك الولي، على ما كان أهل الجاهلية يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقهم الله. وهو حرام نذره على هذا الوجه. حرام لحمه. ولو سمي اسم الله عليه. لأنه أهل لغير الله به!. (تالله لتسألن عما كنتم تفترون) بالقسم والتوكيد الشديد. فهو افتراء يحطم العقيدة من أساسها لأنه يحطم فكرة التوحيد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وما حكي هنا هو من تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربّهم، إذ جعلوا في أموالهم حقاً للأصنام التي لم ترزقهم شيئاً... إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النّعمة، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم وإن كان كل ذلك منكَراً عليهم، إلا أن بعض الكفر أشدّ من بعض...
والجَعْل: التصيير والوضع. تقول: جعلت لك في مالي كذا. وجيء هنا بصيغة المضارع للدّلالة على تجدّد ذلك منهم واستمراره... ومفعول {يعلمون} محذوف لظهوره... وما صدق صلة {ما لا يعلمون} هو الأصنام، وإنما عبّر عنها بهذه الصّلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم، إذ يفرضون في أموالهم عطاءً يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بَلْه مبلغِ ما ينالهم منها... كما قال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميّتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}... ووصف النصيب بأنه {مما رزقناهم} لتشنيع ظلمهم إذ تركوا المنعم فلم يتقرّبوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج، وأنفقوا ذلك في التقرّب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئاً...
وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث وهم ينكرونه فناسب أن يؤكّد. والقسم بالتاء يختصّ بما يكون المقسم عليه أمراً عجيباً ومستغرباً، كما تقدم في قوله تعالى: {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض} في سورة يوسف (73)...
فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالاً عجيباً بمقدار غرابة الجُرم المسؤول عنه...
والتعبير عنه ب {كنتم تفترون} كناية عن استحقاقهم العقاب لأن الكذب على الله جريمة...
والإتيان بفعل الكون وبالمضارع للدّلالة على أن الافتراء كان من شأنهم، وكان متجدداً ومستمراً منهم، فهو أبلغ من أن يقال: عمّا تفترون، وعمّا افتريتم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
واستعرض كتاب الله صورا من معتقدات المشركين وآرائهم السخيفة، في معرض النقض والإبطال، وفي طليعة هذه المعتقدات الباطلة، ما كان المشركون يخصصونه للأصنام والأوثان، من أنعام لا يركبونها ولا يذوقون لحومها، ومن عطايا ونذور لا يقتطعون منها شيئا، وما كانوا ينسبون لمقام الألوهية من اختيار البنات، وهي الملائكة في نظرهم. واستنكر كتاب الله سخافة عقولهم، وسماجة عوائدهم، التي كانت تقضي باحتقار الأنثى والتشاؤم بها، مستغربا كيف أنهم تجرأوا على أن يختاروا لله في زعمهم ما يكرهونه لأنفسهم... وهذه إشارة إلى ما كان يقدم عليه بعض المشركين من وأد البنات وهن أحياء، وما كان يقوم به البعض الآخر من إبقائهن أحياء، لكن في حالة من الضعة والهوان، وفي هذا الموضوع نفسه، ورد في مكان آخر من هذا الربع، قوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى، لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون}، وقوله تعالى: تنزيها للحق سبحانه عن كل ذلك: {ولله المثل الأعلى، وهو العزيز الحكيم}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
للانحراف في العقيدة نتائج على مستوى التصور والممارسة، في ما يمكن أن يجعله المنحرفون لآلهتهم المدّعاة من امتيازات، وفي ما يمكن أن ينسبوه إلى الله من أمور، لأن الأساس إذا لم يكن مرتكزاً على قاعدة العلم والحجة، فإن النتائج المتفرعة عنه ستخضع للهوى وللمزاج. وهذا نموذج مما كان مجتمع الدعوة الأول يعيشه من تصورات...
فكانوا يخصونها ببعض الأموال والأشياء، ويخصون الله ببعضها الآخر...
ولكن الله سبحانه ينكر عليهم ذلك، لأنهم لا يملكون مثل هذا الجعل، طالما أن الله هو مصدر الرزق، ما يفرض أن يكون أمره إلى الله لا إليهم، فليس لله حصة خاصة فيه، بل هو لله كله، هو الذي يجعله لهذا ولذاك في مجال التوزيع والتقسيم، في ما يشرّعه من أحكام، وليس لهم من ذلك أي نصيب...