مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَجۡعَلُونَ لِمَا لَا يَعۡلَمُونَ نَصِيبٗا مِّمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡۗ تَٱللَّهِ لَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَفۡتَرُونَ} (56)

قوله تعالى : { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أو يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ، للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } .

اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل القاهرة فساد أقوال أهل الشرك والتشبيه ، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم وبين فسادها وسخافتها .

فالنوع الأول : من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لما لا يعلمون نصيبا وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : الضمير في قوله : { لما لا يعلمون } إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى المشركين المذكورين في قوله : { إذا فريق منكم بربهم يشركون } والمعنى أن المشركين لا يعلمون . والثاني : أنه عائد إلى الأصنام أي لا تعلم الأصنام ما يفعل عبادها ، قال بعضهم : الأول أولى لوجوه : أحدها : أن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز . وثانيها : أن الضمير في قوله : { ويجعلون } عائد إلى المشركين فكذلك في قوله : { لما لا يعلمون } يجب أن يكون عائد إليهم . وثالثها : أن قوله : { لما لا يعلمون } جمع بالواو والنون . وهو بالعقلاء أليق منه بالأصنام التي هي جمادات ، ومنهم من قال بل القول الثاني أولى لوجوه : الأول : أنا إذا قلنا إنه عائد إلى المشركين افتقرنا إلى إضمار ، فإن التقدير : ويجعلون لما لا يعلمون إلها ، أو لما لا يعلمون كونه نافعا ضارا ، وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام ، لم نفتقر إلى الإضمار لأن التقدير : ويجعلون لما لا علم لها ولا فهم . والثاني : أنه لو كان العلم مضافا إلى المشركين لفسد المعنى ، لأن من المحال أن يجعلوا نصيبا من رزقهم لما لا يعلمونه ، فهذا ما قيل في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر .

واعلم أنا إذا قلنا بالقول الأول افتقرنا فيه إلى الإضمار ، وذلك يحتمل وجوها : أحدها : ويجعلون لما لا يعلمون له حقا ، ولا يعلمون في طاعته نفعا ولا في الإعراض عنه ضررا ، قال مجاهد : يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه ينفعهم ويضرهم نصيبا . وثانيها : ويجعلون لما لا يعلمون إلهيتها . وثالثها : ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها معبودة . ورابعها : المراد استحقار الأصنام حتى كأنها لقلتها لا تعلم .

المسألة الرابعة : في تفسير ذلك النصيب احتمالات : الأول : المراد منه أنهم جعلوا لله نصيبا من الحرث والأنعام يتقربون إلى الله تعالى به ، ونصيبا إلى الأصنام يتقربون به إليها ، وقد شرحنا ذلك في آخر سورة الأنعام . والثاني : أن المراد من هذا النصيب ، البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، وهو قول الحسن . والثالث : ربما اعتقدوا في بعض الأشياء أنه إنما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام ، كما أن المنجمين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة ، فيقولون لزحل كذا من المعادن والنبات والحيوانات ، وللمشتري أشياء أخرى فكذا ههنا .

واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين هذا المذهب قال : { تالله لتسألن } وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة بمنزلة قوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } وعلى التقديرين فأقسم الله تعالى بنفسه أنه يسألهم ، وهذا تهديد منه شديد ، لأن المراد أنه يسألهم سؤال توبيخ وتهديد ، وفي وقت هذا السؤال احتمالان : الأول : أنه يقع ذلك السؤال عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب ، وقيل عند عذاب القبر . والثاني : أنه يقع ذلك في الآخرة ، وهذا أولى لأنه تعالى قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة فهو إلى الوعيد أقرب .