اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَجۡعَلُونَ لِمَا لَا يَعۡلَمُونَ نَصِيبٗا مِّمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡۗ تَٱللَّهِ لَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَفۡتَرُونَ} (56)

قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً } الآية ، لما بيَّن فساد قول أهل الشرك بالدلائل القاهرة ، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم .

قوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } الضمير في قوله : " يَعْلمُونَ " ، يجوز أن يعود للكفار ، أي : لما يعلم ، ومعنى " لا يَعْلمُونَ " : أنهم يسمُّونها آلهة ، ويعتقدون أنَّها تضرُّ ، وتنفع ، وتشفع ؛ وليس الأمر كذلك . ويجوز أن تكون للآلهة ، وهي الأصنام ، أي : الأشياء غير موصوفةٍ بالعلم .

قال بعضهم : والأوَّل أولى ؛ لأنَّ نفي العلم عن الحي حقيقةٌ ، وعن الجمادِ مجازٌ ، وأيضاً : الضمير في " ويَجْعَلُونَ " ، عائدٌ إلى المشركين ، فكذلك في قوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } ، وأيضاً فقوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } جمعٌ بالواو والنون ، وهو بالعقلاءِ أليق منه بالأصنام .

وقيل : الثاني أولى ؛ لأنَّا إذا أعدناه إلى المشركين ؛ افتقرنا إلى إضمار ؛ فإن التقدير : ويجعلون لما لا يعلمون إلهاً ، أو لما لا يعلمون كونه نافعاً ضارًّا ، وإذا أعدناه إلى الأصنام ، لم نفتقر إلى الإضمار ؛ لأن التقدير : ويجعلون لما لا علم لها .

وأيضاً : لو كان هذا العلم مضافاً إلى المشركين ، لفسد المعنى ؛ لأنه من المحال أن يجعلوا نصيباً مما رزقهم ، لما لا يعلمونه .

فإذا قلنا بالقول الأول ، احتجنا إلى الإضمار ، وذلك يحتمل وجوهاً :

أحدها : ويجعلون لما لا يعلمون له حقًّا ، ولا يعلمون في طاعته [ نَفْعاً ] ، ولا في الإعراضِ عنه ضُرًّا . قال مجاهدٌ : يعلمون أنَّ الله خلقهم ويضرُّهم وينفعهم ، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنَّه ينفعهم ، ويضرُّهم نصيباً{[19893]} .

وثانيها : ويجعلون لما لا يعلمون إلهيَّتها .

وثالثها : ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها آلهة معبودة .

قوله : " نَصِيباً " هو المفعول الأول للجعل ، والجارُّ قبله هو الثاني ، أي : ويصيِّرون الأصنام .

[ وقوله : ] { مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } يجوز أن يكون نعتاً ل " نَصِيباً " وأن يتعلق بالجعل ، ف " مِنْ " على الأول للتبعيض ، وعلى الثاني للابتداء .

فصل

في المراد بالنصيب احتمالات :

أحدها : أنهم جعلوا لله نصيباً من الحرثِ ، والأنعامِ ؛ يتقرَّبون به إلى الله ، ونصيباً للأصنام ؛ يتقربون به إليها ، كما تقدم في آخر سورة الأنعام .

والثاني : قال الحسنُ - رحمه الله - : المراد بهذا النصيب : البَحِيرةُ ، والسَّائبةُ ، والوَصِيلةُ ، والحَامِ{[19894]} .

والثالث : ربما اعتقدوا في بعض الأشياء ، أنَّه لما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام ، كما أنَّ المنجمين يوزِّعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة ، فيقولون : لرجلٍ كذا وكذا من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وللمشتري أشياء أخرى .

ثمَّ لمَّا حكى عن المشركين هذا المذهب ، قال : { تالله لَتُسْأَلُنَّ } ، وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة بمنزلة قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] ، فأقسم الله سبحانه وتعالى - جل ذكره - على نفسه أنَّه يسألهم ، وهذا تهديد شديد ؛ لأن المراد من هذا : أنه يسألهم سؤال توبيخٍ وتهديدٍ ، وفي وقت هذا السؤال احتمالان :

الأول : أنه يقع هذا السؤال عند قرب الموت ، ومعاينة ملائكة العذاب ، وقيل : عند عذاب القبر ، وقيل : في الآخرةِ .

الثاني : أنه يقع ذلك في الآخرة ، وهذا أولى ؛ لأنه - تعالى - قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة ، فهو إلى الوعيد أولى .


[19893]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/598) وذكر السيوطي في "الدر المنثور" (4/226) وعزاه إلى الطبري.
[19894]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/44).