يحذر تعالى{[2516]} عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم . ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال ، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح . ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه ، كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان حُيَيُّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهودَ للعرب حسدًا ، إذْ خَصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جَاهدَين في ردِّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } الآية .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن الزهري ، في قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } قال : هو كعب بن الأشرف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه : أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا ، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه{[2517]} أنزل الله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } إلى قوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل{[2518]} والآيات ، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا ؛ ولذلك قال
الله تعالى : { كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } يقول : من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحود ، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة ، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل{[2519]} عليهم وما أنزل من قبلهم ، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم .
وقال الربيع بن أنس : { مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } من قبل أنفسهم . وقال أبو العالية : { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } من بعد ما تبين [ لهم ]{[2520]} أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فكفروا به حسدا وبغيًا ؛ إذ كان من غيرهم . وكذا قال قتادة والربيع والسدي .
وقوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } مثل قوله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ } [ آل عمران : 186 ] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } نسخ ذلك قوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] فنسخ هذا عفوه عن المشركين . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي : إنها منسوخة بآية السيف ، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله : { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان{[2521]} أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عُرْوَة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوَّل من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش{[2522]} .
وهذا إسناده{[2523]} صحيح ، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ]{[2524]} .
مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم ، وآخرتها شبهة النسخ ، فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } [ البقرة : 105 ] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر . وقد استطرد بينه وبين الآية السابقة بقوله : { ما ننسخ } [ البقرة : 106 ] الآيات للوجوه المتقدمة ، فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها . وفي « تفسير ابن عطية » و« الكشاف » و« أسباب النزول » للواحدي أن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس{[156]} وفيه فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس وغيرهما من اليهود فقالوا لحذيفة وعمار : « ألم تروا ما أصابكم يوم أحد ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير ونحن أهدى منكم » فردا عليهم وثبتا على الإسلام .
وإنما أسند هذا الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } [ البقرة : 105 ] إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب فلما جاء الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعاً فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا ، فهم لا يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمني الكفر وهو رضي به . وأما عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى الشرك ولا يبقوا على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبيء صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] وفي هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير بـِِ { يردونكم } دون لو كفرتم ليشار إلى أن ودادتهم أن يرجع المسلمون إلى الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية . وبه يظهر وجه مجيء { كفاراً } معمولاً لمعمول { ود كثير } ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفاراً بالله أي كفارا كفراً متفقاً عليه حتى عند أهل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صْدق ما ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه ، وبه يظهر أيضاً وجه قوله تعالى : { من بعد ما تبين لهم الحق } فإنه تبيُّنُ أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد والإيمان بالرسل بخلاف الشرك ، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله مطلع عليهم .
و { لو } هنا بمعنى أن المصدرية ولذلك يؤول ما بعدها بمصدر .
و { حسداً } حال من ضمير { وَدَّ } أي إن هذا الود لا سبب له إلا الحسد لا الرغبة في الكفر .
وقوله : { من عند أنفسهم } جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم . وأُكد ذلك بكلمة ( عند ) الدالةِ على الاستقرار ليزداد بيانُ تمكنه وهو متعلق بحسداً لا بقوله : { ود } .
وإنّما أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكى عن أهل الكتاب هنا مما يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى : { وكره إليكم الكفر } [ الحجرات : 7 ] فلا جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيراً للغضب خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل .
والعفو ترك عقوبة المذنب . والصفح بفتح الصاد مصدر صفح صفحاً إذا أعرض لأن الإنسان إذا أعرض عن شيءٍ ولاه من صفحة وجهه ، وصفح وجهه أي جانبه وعرضه وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو كما نقل عن الراغب ولذلك عطف الأمر به على الأمر بالعفو لأن الأمر بالعفو لا يستلزمه ولم يستغن باصفحوا لقصد التدريج في أمرهم بما قد يخالف ما تميل إليه أنفسهم من الانتقام تلطفاً من الله مع المسلمين في حملهم على مكارم الأخلاق .
وقوله : { حتى يأتي الله بأمره } أي حتى يجيء ما فيه شفاء غليلكم قيل هو إجلاء بني النضير وقتل قريظة ، وقيل الأمر بقتال الكتابيين أو ضرب الجزية .
والظاهر أنه غاية مبهمة للعفو والصفح تطميناً لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين لهم بطلاً وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه كقول الناس حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية ، ومن ذلك إجلاء بني النضير .
ولعل في قوله : { إن الله على كل شيء قدير } تعليماً للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء وهو يعفو ويصفح وفي الحديث الصحيح " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل يدعون له نداً وهو يرزقهم " ، أو أراد أنه على كل شيء قدير فلو شاء لأهلكهم الآن ولكنه لحكمته أمركم بالعفو عنهم وكل ذلك يرجع إلى الائتساء بصنع الله تعالى وقد قيل : إن الحكمة كلها هي التشبه بالخالق بقدر الطاقة البشرية . فجملة { إن الله على كل شيء قدير } تذييل مسوق مساق التعليل ، وجملة { فاعفوا واصفحوا } إلى قوله : { وقالوا لن يدخل } [ البقرة : 111 ] تفريع مع اعتراض فإن الجملة المعترضة هي الواقعة بين جملتين شديدتي الاتصال من حيث الغرض المسوق له الكلام والاعتراض هو مجيء ما لم يسق غرض الكلام له ولكن للكلام والغرض به علاقة وتكميلاً وقد جاء التفريع بالفاء هنا في معنى تفريع الكلام على الكلام لا تفريع معنى المدلول على المدلول لأن معنى العفو لا يتفرع عن ود أهل الكتاب ولكن الأمر به تفرع عن ذكر هذا الود الذي هو أذى وتجيء الجملة المعترضة بالواو وبالفاء بأن يكون المعطوف اعتراضاً . وقد جوزه صاحب « الكشاف » عند قوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } في سورة النحل ( 43 ) ، وجوزه ابن هشام في « مغني اللبيب » واحتج له بقوله تعالى : { فالله أولى بهما } [ النساء : 135 ] على قول ونقل بعض تلامذة الزمخشري أنه سئل عن قوله تعالى في سورة عبس ( 11 ، 13 ) { إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة } أنه قال لا يصح أن تكون جملة { فمن شاء ذكره } اعتراضاً لأن الاعتراض لا يكون مع الفاء ورده صاحب « الكشاف » بأنه لا يصح عنه لمنافاته كلامه في آية سورة النحل .