تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (35)

{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } قال بعضهم : معناه : لا ينبغي لأحد من بعدي أي : لا يصلح لأحد أن يسلبنيه كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده من الناس . والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله ، وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبه وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن عفريتا من الجن تَفَلَّت عليّ البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تُصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي } قال روح : فرده خاسئا وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به وقال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن سلمة المُرَادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن يَزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول : " أعوذ بالله منك " . ثم قال : " ألعنك بلعنة الله " - ثلاثا - وبسط يَدَه كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله ، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك ؟ قال : " إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت : أعوذ بالله منك - ثلاث مرات - ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة . فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخْذَه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة "

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال : رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي ، فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال : " لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْدَ لعابه بين أصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد ، يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل " .

وقد روى أبو داود منه : " من استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل " عن أحمد بن أبي سُرَيج عن أبي أحمد الزبيري به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي ، حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد الله الديلمي قال : دخلت على عبد الله بن عمرو ، وهو في حائط له بالطائف يقال له : " الوهط " ، وهو مُخَاصر فتى من قريش يُزَنّ بشُرْب الخمر ، فقلت : بلغني عنك حديث أنه " من شرب شربة خَمْر لم يقبل الله - عز وجل - له تَوبَةً أربعين صباحًا ، وإن الشقي من شقي في بطن أمه وإنه من أتى بيت المقدس لا يَنْهَزه إلا الصلاة فيه ، خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه ، فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق . فقال عبد الله بن عمرو إني لا أحل لأحد أن يقول عَلَيّ ما لم أقل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه . فإن عاد - قال فلا أدري في الثالثة أو الرابعة - فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من رَدْغَة الخبال يوم القيامة " قال : وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عز وجل " وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن سليمان سأل الله تعالى ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة : سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله تعالى قد أعطانا إياها "

وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالا ثلاثا . . . " وذكره .

وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه ، بإسناد وسياق غريبين فقال الطبراني : حدثنا محمد بن الحسن بن قُتَيْبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سُوَيْد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عَبْلَة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل لداود عليه السلام : ابن لي بيتًا في الأرض . فبنى داود بيتًا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه : يا داود نصبت بيتك قبل بيتي ؟ قال : يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال : يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتًا قال : ولم يا رب ؟ قال : لما جرى على يديك من الدماء . قال : يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك ؟ قال : بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه : لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان . فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه فلما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه : قد أرى سرورَك ببنيان بيتي فسلني أعطك . قال : أسألك ثلاث خصال حكما يصادف حكمك وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتي هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما ثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة "

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا عُمَر بن راشد اليمامي ، حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا دعاءً إلا استفتحه ب " سبحان الله ربي الأعلى العلي الوهاب "

وقد قال أبو عبيد : حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن بَرْقان عن صالح بن مسمار قال : لما مات نبي الله داود أوحى الله إلى ابنه سليمان عليهما السلام : أن سلني حاجتك . قال : أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي . فقال الله : أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني لأهَبَنّ له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده . قال الله تعالى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } والتي بعدها ، قال : فأعطاه الله ما أعطاه وفي الآخرة لا حساب عليه .

هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام في تاريخه .

وروي عن بعض السلف أنه قال : بلغني عن داود عليه السلام أنه قال : " إلهي كن لسليمان كما كنت لي " : فأوحى الله إليه : أن قل لسليمان : يكون لي كما كنت لي ، أكون له كما كنتُ لك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (35)

ثم إن سليمان عليه السلام استغفر ربه واستوهبه ملكاً . واختلف المتأولون في معنى قوله : { لا ينبغي لأحد من بعدي } فقال جمهور الناس : أراد أن يفرده بين البشر لتكون خاصة له وكرامة ، وهذا هو الظاهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه بسرية من سواري المسجد ، قال : «ثم ذكرت قول أخي سليمان : { رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فأرسلته » ، وقال قتادة وعطاء بن أبي رباح : إنما أراد سليمان : { لا ينبغي لأحد من بعدي } مدة حياتي ، أي لا أسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني . وروي في مثالب الحجاج بن يوسف أنه لما قرأ هذه الآية قال : لقد كان حسوداً ، وهذا من فسق الحجاج . وسليمان عليه السلام مقطوع بأنه إنما قصد بذلك قصداً براً جائزاً ، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد ، لا سيما بحسب المكانة والنبوءة ، وانظر أن قول عليه السلام : { ينبغي } إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصاً لما أوتيه سليمان ، لكن لما كان فيه بعض الشبه تركه جرياً منه عليه السلام على اختياره أبداً أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (35)

وجملة { قال ربّ اغفر لي } بدل اشتمال من جملة { أنَابَ } لأن الإِنابة تشتمل على ترقب العفو عما عسى أن يكون قد صدر منه مما لا يرضي الله تعالى صدوره من أمثاله .

وإردافه طلب المغفرة باستيهاب مُلْك لا ينبغي لأحدٍ من بعده لأنه توقع من غضب الله أمرين : العقاب في الآخرة ، وسلب النعمة في الدنيا إذ قصّر في شكرها ، وكان سليمان يومئذٍ في مُلْك عظيم فسؤال موهبة الملك مراد به استدامة ذلك الملك وصيغة الطلب ترد لطلب الدوام مثل : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] . وتنكير { مُلْكاً } للتعظيم .

وارتقى سليمان في تدرج سؤاله إلى أن وصف ملكاً أنه لا ينبغي لأحد من بعده ، أي لا يتأتى لأحد من بعده ، أي لا يعطيه الله أحداً يبتغيه من بعده .

فكنّى ب { لا ينبغي } عن معنى لا يُعطَى لأحد ، أي لا تعطيه أحداً من بعدي .

ففعل : { ينبغِي } مطاوع بغاه ، يقال : بغاه فانبغى له وليس للملْك اختيار وانبغاء وإنما الله هو المعطي والميسّر فإسناد الانبغاء إلى الملك مجاز عقلي ، وحقيقته : انبغاء سببه . وهذا من التأدّي في دعائه إذ لم يقل : لا تعطه أحداً من بعدي .

وسأل الله أن لا يقيم له منازعاً في ملكه وأن يبقى له ذلك الملكُ إلى موته ، فاستجاب فكان سليمان يخشى ظهور عبده ( يربعام بن نباط ) من سبط أفرايم عليه إذ كان أظهر الكيد لسليمان فطلبه سليمان ليقتله فهرب إلى ( شيشق ) فرعون مصر وبقي في مصر إلى وفاة سليمان . فهذا أيضاً مما حمل سليمان أن يسأل الله تثبيت ملكه وأن لا يعطيه أحداً غيره . وكان لسليمان عدوَّان آخران هما ( هدد ) الأدومي و ( رزون ) من أهل صرفة مقيمين في تخوم مملكة إسرائيل فخشي أن يكون الله هيأهما لإِزالة ملكه .

واستعمل { مِن بعدي } في معنى : من دوني ، كقوله تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] ، فيكون معنى { لا ينبغِي } أنه لا ينبغي لأحد غيري ، أي في وقت حياتي فهذا دعاء بأن لا يُسلط أحد على ملكه مدة حياته .

وعلى هذا التفسير لا يكون في سؤاله هذا الملك شيء من الاهتمام بأن لا ينال غيره مثل ما ناله هو فلا يرد على ذلك أن مثل هذا يعدّ من الحسد .

ويجوز أن يبقى { مِن بعدي } على ظاهره ، أي بعد حياتي . فمعنى { لا يَنبغِي } : لا ينبغي مثله لأحد بعد وفاتي . وتأويل ذلك أنه قصد من سؤاله الإِشفاق من أن يلِي مثل ذلك الملك من ليس له من النُبوءة والحكمة والعصمة ما يضطلع به لأعباء ملك مثل ذلك الملك ومن ليس له من النفوذ على أمته ما لسليمان على أمته فلا يلبث أن يحسد على الملك فينجم في الأمة منازعون للمَلِك على مُلْكه ، فينتفِي أيضاً على هذا التأويل إيهام أنه سأل ذلك غيرة على نفسه أن يعطَى أحد غيرُه مثلَ ملكه ( مما تشمّ منه رائحة الحسد ) .

وقد تضمنت دعوته شيئين : هما أن يعطى ملكاً عظيماً ، وأن لا يُعطَى غيرُه مثلَه في عظمته . وقد حكى الله دعاء سليمان وهو سرّ بينه وبين ربه إشعاراً بأنه ألهمه إياه ، وأنه استجاب له دعوته تعريفاً برضاه عنه وبأنه جعل استجابته مكرمة توبتِه . ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان فإن ملك سليمان عمّ التصرف في الجن وتسخير الريح والطير ، ومجموعُ ذلك لم يحصل لأحد من بعده .

وفي « الصحيح » عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن عفريتاً من الجن تفلَّتَ البارحةَ ليقطع عليَّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردتُ أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلُّكُم فذكرتُ دعوة أخي سليمان : « رب هَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لأحَدٍ مِنْ بَعْدي فرددته خاسِئاً » .

وجملة { إنَّك أنتَ الوهابُ } علة للسؤال كله وتمهيد للإِجابة ، فقامت ( إنّ ) مقام حرف التفريع ودلت صيغة المبالغة في { الوَهَّابُ } على أنه تعالى يهب الكثير والعظيم لأن المبالغة تفيد شدة الكمية أو شدة الكيفية أو كلتيهما بقرينة مقام الدعاء ، فمغفرة الذنب من المواهب العظيمة لما يرتب عليه من درجات الآخرة وإعطاء مثل هذا الملك هو هبة عظيمة . و { أنْتَ } ضميرُ فصل ، وأفاد الفصل به قصراً فصار المعنى : أنت القوي الموهبة لا غيرك ، لأن الله يَهَب ما لا يملك غيره أن يهبه .