يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده ، من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو ، كما قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ الروم : 30 ] ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعاء ، هل تُحِسُّون فيها من جدعاء ؟ " {[14528]} . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : " يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم " {[14529]} . وفي المسند والسنن : " كل مولود يولد على هذه الملة ، حتى يُعرِب عنه لسانه " {[14530]} الحديث ، فالمؤمن باق على هذه الفطرة . [ وقوله : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } أي ]{[14531]} : وجاءه شاهد من الله ، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء ، من الشرائع المطهرَة المُكَمَّلَة المعظَّمة المُخْتَتَمَةِ بشريعة محمد ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين . ولهذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وأبو العالية ، والضحاك ، وإبراهيم النَّخَعي ، والسُّدِّي ، وغير واحد في قوله تعالى : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } إنه جبريل عليه السلام .
وعن علي ، والحسن ، وقتادة : هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وكلاهما قريب في المعنى ؛ لأن كلا من جبريل ومحمد ، صلوات الله عليهما ، بلَّغ رسالة الله تعالى ، فجبريل إلى محمد ، ومحمد إلى الأمة{[14532]} .
وقيل : هو عليّ . وهو ضعيف لا يثبت له قائل ، والأول والثاني هو الحق ؛ وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة ، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة ، والفطرة تصدقها وتؤمن بها ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وهو القرآن ، بلّغه جبريل إلى النبي [ محمد ]{[14533]} صلى الله عليه وسلم ، وبلغه النبي محمد إلى أمته .
ثم قال تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } أي : ومن قبل [ هذا ]{[14534]} القرآن كتاب موسى ، وهو التوراة ، { إِمَامًا وَرَحْمَةً } أي : أنزل الله تعالى إلى تلك الأمة إماما لهم ، وقدوة{[14535]} يقتدون بها ، ورحمة من الله بهم . فمن آمن بها حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } .
ثم قال تعالى متوعدا لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } أي : ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركيهم : أهل{[14536]} الكتاب وغيرهم ، من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم ، ممن بلغه القرآن ، كما قال تعالى : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، وقال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] . وقال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وفي صحيح مسلم ، من حديث شعبة ، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " {[14537]} .
وقال أيوب السختياني ، عن سعيد بن جبير قال : كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه - أو قال : تصديقه - في القرآن ، فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، فلا يؤمن بي إلا دخل النار " . فجعلت أقول : أين مصداقه في كتاب الله ؟ قال : وقلما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت له تصديقا في القرآن ، حتى وجدت هذه الآية : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قال : " من الملل كلها " {[14538]}
قوله : { فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي : القرآن حق من الله ، لا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى : { الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ السجدة : 1 ، 2 ] ، وقال تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ] } [ البقرة : 1 ، 2 ]{[14539]} .
وقوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } كما قال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 20 ] .
اختلف المتأولون في المراد بقوله { أفمن } فقالت فرقة : المراد بذلك المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقالت فرقة المراد محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وابن عباس : المراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون جميعاً .
وكذلك اختلف في المراد ب «البيّنة » فقالت فرقة : المراد بذلك القرآن ، أي على جلية بسبب القرآن ، وقالت فرقة : المراد محمد صلى الله عليه وسلم والهاء في «البيّنة » للمبالغة كهاء علامة ونسابة .
وكذلك اختلف في المراد ب «الشاهد » فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والضحاك وأبو صالح وعكرمة : هو جبريل .
وقال الحسين بن علي : هو محمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد أيضاً : هو ملك وكّله الله بحفظ القرآن .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل عليه السلام{[6281]} .
وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة : هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم . وقالت فرقة : هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وروي ذلك عنه ، وقالت فرقة : هو الإنجيل ، وقالت فرقة : هو القرآن ، وقالت فرقة : هو إعجاز القرآن .
قال القاضي أبو محمد : ويتصرف قوله { يتلوه } على معنيين : بمعنى يقرأ ، وبمعنى يتبعه ، وتصرفه بسبب الخلاف المذكور في «الشاهد » ولنرتب الآن اطراد كل قول وما يحتمل .
فإذا قلنا إن قوله : «أفمن » يراد به المؤمنون : فإن جعلت بعد ذلك «البيّنة » محمد صلى الله عليه وسلم صح أن يترتب «الشاهد » الإنجيل ويكون { يتلوه } بمعنى يقرأه ، لأن الإنجيل يقرأ شأن محمد صلى الله عليه وسلم وأن يترتب جبريل عليه السلام ويكون { يتلوه } بمعنى يتبعه أي في تبليغ الشرع والمعونة فيه وأن يترتب الملك ويكون الضمير في { منه } عائداً على البيّنة التي قدرناها محمداً صلى الله عليه وسلم وأن يترتب القرآن ويكون { يتلوه } بمعنى يتبعه ، ويعود الضمير في { منه } على الرب .
وإن جعلنا «البيّنة » القرآن على أن { أفمن } هم المؤمنون - صح أن يترتب «الشاهد » محمد صلى الله عليه وسلم ، وصح أن يترتب الإنجيل وصح أن يترتب جبريل والملك ، ويكون { يتلوه } بمعنى يقرأه : وصح أن يترتب «الشاهد » الإعجاز ، ويكون { يتلوه } بمعنى يتبعه ، ويعود الضمير في { منه } على القرآن .
وإذا جعلنا { أفمن } للنبي صلى الله عليه وسلم ، كانت «البيّنة » القرآن ، وترتب «الشاهد » لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، وترتب الإنجيل ، وترتب جبريل والملك ، وترتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وترتب الإعجاز . ويتأول { يتلوه } بحسب «الشاهد » كما قلنا ولكن هذا القول يضعفه قوله { أولئك } فإنا إذا جعلنا قوله : { أفمن } للنبي صلى الله عليه وسلم وحده لم نجد في الآية مذكورين يشار إليهم بذلك ونحتاج في الآية إلى تجوز وتشبيه بقوله تعالى :
{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء }{[6282]} وهو شبه ليس بالقوي .
والصح في الآية أن يكون قوله : { أفمن } للمؤمنين ، أو للمؤمنين والنبي معهم بأن لا يترتب «الشاهد »{[6283]} بعد ذلك يراد به النبي إذا قدرناه داخلاً في قوله : { أفمن } . وما تركناه من بسط هذا الترتيب يخرجه التدبر بسرعة فتأمله .
وقرأ جمهور الناس «كتابُ » بالرفع ؛ وقرأ الكلبي وغيره «كتاباً » بالنصب فمن رفع قدر «الشاهد » الإنجيل{[6284]} معناه يقرأ القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم - بحسب الخلاف - و «الإنجيل » و «من قبل » كتاب موسى إذ في الكتابين ذكر القرآن وذكر محمد صلى الله عليه وسلم .
ويصح أن يقدر الرافع «الشاهد » القرآن ، وتطرد الألفاظ بعد ذلك ، ومن نصب «كتاباً » قدر «الشاهد » جبريل عليه السلام ، أي يتلو القرآن جبريل ومن قبل القرآن كتاب موسى{[6285]} .
قال القاضي أبو محمد : وهنا اعتراض يقال : إذ قال { من قبله كتاب موسى } أو «كتابَ » بالنصب على القراءتين : والضمير في { قبله } عائد على القرآن - فلم لم يذكر الإنجيل - وهو قبله - بينه وبين كتاب موسى ؟ فالانفصال : أنه خص التوراة بالذكر لأن الملّتين مجمعتان أنهما من عند الله ، والإنجيل ليس كذلك : فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الطائفتين أولى : وهذا يجري مع قول الجن : { إنا سمعنا كتاب أنزل من بعد موسى }{[6286]} ومع قول النجاشي : إن هذا ، والذي جاء به موسى ، لخرج من مشكاة واحدة ؛ فإنما اختصر الإنجيل من جهة أن مذهبهم فيه مخالف لحال القرآن والتوراة ، ونصب { إماماً } على الحال من { كتاب موسى } ، { والأحزاب } ها هنا يراد به جميع الأمم ، وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ، ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار »{[6287]} فقلت{[6288]} : أين مصداق هذا من كتاب الله ؟ حتى وجدته في هذه الآية ، وكنت إذا سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله .
قال القاضي أبو محمد : والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية أن يكون { أفمن } للمؤمنين أو لهم وللنبي معهم ، إذ قد تقدم ذكر { الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } [ هود : 16 ] ، فعقب ذكرهم بذكر غيرهم ، و «البيّنة » القرآن وما تضمن . و «الشاهد » محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل إذا دخل النبي في قوله : { أفمن } أو الإنجيل والضمير في { يتلوه } للبيّنة ، وفي { منه } للرب تعالى ، والضمير في { قبله } للبيّنة وغير هذا مما ذكرته آنفاً محتمل .
وقرأ الجمهور «في مِرية » بكسر الميم ، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي «في مُرية » بضم الميم ، وهما لغتان في الشك ، والضمير في { منه } عائد على كون الكفرة موعدهم النار ، وسائر الآية بيّن .
وفي هذه الآية معادلة محذوفة يقتضيها ظاهر اللفظ تقديره : أفمن كان على بيّنة من ربه كمن كفر بالله وكذب أنبياءه ، ونحو هذا ، في معنى الحذف ، قوله عز وجل : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى }{[6289]} ، لكان هذا القرآن ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ] .
فأقسم لو شيء أتانا رسوله*** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا{[6290]}