قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ } يقول : هادي أهل السموات والأرض .
وقال ابن جُرَيْج : قال مجاهد وابن عباس في قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يدبر الأمر فيهما ، نجومهما وشمسهما وقمرهما .
وقال ابن جرير : حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرَقِّي ، حدثنا وهب بن راشد ، عن فَرْقَد ، عن أنس بن مالك قال : إن إلهي يقول : نوري هداي .
واختار هذا القول ابن جرير ، رحمه الله .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب في قول الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } قال : هو المؤمن الذي جعل [ الله ]{[21166]} الإيمان والقرآن في صدره ، فضرب الله مثله فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } فبدأ بنور نفسه ، ثم ذكر نور المؤمن فقال : مثل نور من آمن به . قال : فكان أُبي بن كعب يقرؤها : " مثل نور من آمن به{[21167]} فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره .
وهكذا قال{[21168]} سعيد بن جُبير ، وقيس بن سعد ، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك : " نور من آمن بالله " .
وقرأ بعضهم : " اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ " " .
وعن الضحاك : " اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ " .
وقال السدي في قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } : فبنوره أضاءت السموات والأرض .
وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف : " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بي غَضبك أو ينزل بي سَخَطُك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك{[21169]}-{[21170]} .
وفي الصحيحين ، عن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا قام من الليل يقول : " اللهم لك الحمد ، أنت قَيّم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن " الحديث{[21171]} .
وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش من نور وجهه .
وقوله : { مَثَلُ نُورِهِ } في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى الله ، عز وجل ، أي : مثل هداه في قلب المؤمن ، قاله ابن عباس { كمشكاة } .
والثاني : أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام : تقديره : مثل نور المؤمن الذي في قلبه ، كمشكاة . فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى ، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه ، كما قال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [ هود : 17 ] ، فشبه قلب{[21172]} المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري ، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل ، الذي لا كدر فيه ولا انحراف .
فقوله{[21173]} : { كَمِشْكَاةٍ } : قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، وغير واحد : هو موضع الفتيلة من القنديل . هذا هو المشهور ؛ ولهذا قال بعده : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، وهو الذُّبالة التي تضيء .
وقال العوفي ، عن ابن عباس [ في ]{[21174]} قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } : وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره ، فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ } . والمشكاة : كوَّة في البيت - قال : وهو مثل ضَرَبه الله لطاعته{[21175]} . فسمَّى الله طاعَتَه نُورًا ، ثم سَمَاها أنواعا شَتَّى .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : الكوة بلُغة الحبشة . وزاد غيره فقال : المشكاة : الكوة التي لا منفذ لها . وعن مجاهد : المشكاة : الحدائد التي يعلق بها القنديل .
والقول الأول أولى ، وهو : أن المشكاة هي موضع الفَتيلة من القنديل ؛ ولهذا قال : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو النور الذي في الذُّبالة .
قال أبيً بن كعب : المصباح : النور ، وهو القرآن والإيمان الذي في صدره .
{ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } أي : هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية .
قال أبيّ بن كعب وغير واحد : وهي نظير قلب المؤمن . { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } : قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة ، من الدّر ، أي : كأنها كوكب من دُرّ .
وقرأ آخرون : " دِرّيء " و " دُرِّيء " بكسر الدال وضمها مع الهمز ، من الدَرْء وهو الدفع ؛ وذلك أن النجم إذا رُمي به يكون أشدّ استنارة من سائر الأحوال ، والعرب تسمي ما لا يعرف من الكواكب دراريّ .
قال أبيّ بن كعب : كوكب مضيء . وقال قتادة : مضيء مبين ضخم . { يُوقَدُ{[21176]} مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } أي : يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة { زيتونة } بدل أو عطف بيان { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أي : ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ، ولا في غربيها فيتقلّص عنها الفيء قبل الغروب ، بل هي في مكان وسط ، تَفْرَعه{[21177]} الشمس من أول النهار إلى آخره ، فيجيء زيتها معتدلا صافيا مشرقا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ، أخبرنا عمرو بن أبي قيس ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : شجرة بالصحراء ، لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف ، ولا يواريها شيء ، وهو أجود لزيتها .
وقال يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن عمران بن حُدَيْر ، عن عكرمة ، في قوله : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي بصحراء ، وذلك أصفى لزينتها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا عُمَر بن فَرُّوخ ، عن حبيب بن الزبير ، عن عكرمة - وسأله رجل عن : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال{[21178]} تلك [ زيتونة ]{[21179]} بأرض فلاة ، إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها ، وإذا غربت غربت عليها فذاك أصفى ما يكون من الزيت .
وقال مجاهد في قوله : { [ زَيْتُونَةٍ ] لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } {[21180]} قال : ليست بشرقية ، لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت ، [ ولكنها شرقية وغربية ، تصيبها إذا طلعت ]{[21181]} وإذا غربت .
وقال سعيد بن جُبَيْر في قوله { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ } قال : هو أجود الزيت . قال : إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق ، فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس ، فالشمس تصيبها بالغداة والعَشِيّ ، فتلك لا تعد شرقية ولا غربية .
وقال السدي [ في ]{[21182]} قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } يقول : ليست بشرقية يحوزها المشرق ، ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ، ولكنها على رأس جبل ، أو في صحراء ، تصيبها الشمس النهارَ كلَّه .
وقيل : المراد بقوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أنها في وسط الشجر ، وليست بادية للمشرق ولا للمغرب .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبي بن كعب ، في قول الله تعالى : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : فهي خضراء ناعمة ، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غربت . قال : فكذلك هذا المؤمن ، قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن ، وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها ، فهو بين أربع خلال : إن قال صَدَق ، وإن حكم عدل ، وإن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مُسَدَّد قال : حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي وسط الشجر ، لا تصيبها الشمس شرقا ولا غربا .
وقال عطية العوفي : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي شجرة في موضع من الشجر ، يرى ظل ثمرها في ورقها ، وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكِي ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في قوله تعالى : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } ليست شرقية ليس فيها غرب ، ولا غربية ليس فيها شرق ، ولكنها شرقية غربية .
وقال محمد بن كعب القُرَظي : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي القبْلية .
وقال زيد بن أسلم : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : الشام .
وقال الحسن البصري : لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنه مثل ضربه الله لنوره .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { توقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } قال : رجل صالح { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : لا يهودي ولا نصراني .
وأولى هذه الأقوال القولُ الأول ، وهو أنها في مستوى من الأرض ، في مكان فسيح بارز ظاهر ضاح للشمس ، تَفْرعه من أول النهار إلى آخره ، ليكون ذلك أصفى لزينتها وألطف ، كما قال غير واحد ممن تقدم ؛ ولهذا قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني : لضوء إشراق الزيت .
وقوله : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال العوفي ، عن ابن عباس : يعني بذلك إيمان العبد وعمله .
وقال مجاهد ، والسدي : يعني نور النار ونور الزيت .
وقال أبي بن كعب : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } فهو يتقلب في خمسة من النور ، فكلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة .
وقال شِمْر بن عَطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }
قال : يكاد محمد يبين للناس ، وإن{[21183]} لم يتكلم ، أنه نبي ، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء .
وقال السُّدِّي في قوله : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال : نور النار ونور الزيت ، حين اجتمعا أضاءا ، ولا يضيء واحد بغير صاحبه [ كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا ، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه ]{[21184]}
وقوله : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : يرشد الله إلى هدايته من يختاره ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني ربيعة بن يزيد ، عن عبد الله [ بن ]{[21185]} الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ ، فمن أصاب يومئذ من نوره اهتدى ، ومن أخطأه ضل . فلذلك أقول : جفَّ القلم على علم الله عز وجل " {[21186]} طريق أخرى عنه : قال البزار : حدثنا أيوب{[21187]} بن سُوَيْد ، عن يحيى بن أبي عمرو الشَّيباني ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ، فألقى عليهم نورًا من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه{[21188]} ضل . [ ورواه البزار ، عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر ، بلفظه وحروفه ]{[21189]}- {[21190]} .
وقوله تعالى : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في قلب المؤمن ، ختم الآية بقوله : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر : حدثنا أبو معاوية - يعني{[21191]} شيبان - ، عن ليث ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البَخْتَري ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يُزهرُ ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مُصْفَح : فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن ، سراجه فيه نوره . وأما القلب الأغلف فقلب الكافر . وأما القلب المنكوس فقلب [ المنافق ]{[21192]} عَرَفَ ثم أنكر . وأما القلب المُصْفَح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يَمُدّها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة يَمُدَّها القيح والدم ، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه " . إسناده جيد{[21193]} ولم يخرجوه .
«النور » في كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر ويستعمل فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه كلام له نور ومنه الكتاب المنير ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
نسب كأن عليه من شمس الضحى . . . نوراً ومن فلق الصباح عمودا{[8716]}
والله تعالى ليس كمثله شيء فبين أنه ليس كالأضواء المدركة ولم يبق للآية معنى إلا أنه أراد { الله } ذو { نور السماوات والأرض } أي بقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها وقامت مصنوعاتها ، فالكلام على التقريب للذهن ، كما تقول :الملك نورالأمة أي به قوام أمورها وصلاح جملتها ، والأمر في الملك مجاز وهو في صفة الله تعالى حقيقة محضة ، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نوراً هادياً لأن ظهور الوجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات تبارك الله لا رب سواه{[8717]} ، وقالت فرقة التقدير دين الله { نور السماوات والأرض } ، قال ابن عباس هادي أهل السماوات والأرض والأول أعم للمعاني وأوضح مع التأمل ، وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي الله «نَوّرَ » بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء على أنه فعل{[8718]} ، وروي أن اليهود لما نزلت هذه الآية جسموا في تأوليها واعترضوا محمداً عليه السلام بأن قالوا كيف هو نور الأرض والسماء بيننا وبينه ، فنزلت حينئذ { مثل نوره كمشكاة } الآية أي ليس الأمر كما ظننتم وإنما هو نور بأنه قوام كل شيء وخالقه وموجده { مثل نوره } كذا وكذا ، واختلف المتأولون في الضمير في { نوره } على من يعود ، فقال كعب الأحبار وابن جبير هو عائد على محمد عليه السلام أي مثل نور محمد ، وقال أبي بن كعب وابن جبير والضحاك هو عائد على المؤمنين ، وفي قراءة أبي بن كعب «مثل نور المؤمنين » ، وروي أن في قراءته «نور المؤمن » ، وروي أن فيها «مثل نور من آمن به » ، وقال الحسن هو عائد على القرآن والإيمان ، قال مكي بن أبي طالب وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله { والأرض } .
قال القاضي أبو محمد : وهذه أقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر ، وفيها تقطع المعنى المراد بالآية ، وقالت فرقة الضمير في { نوره } عائد على { الله } ، ثم اختلفت هذه الفرقة في المراد ب «النور » الذي أضيف إلى الله تعالى إضافة خلق إلى خالق كما تقول سماء الله وناقة الله ، فقال بعضها هو محمد صلى الله عليه وسلم{[8719]} ، وقال بعضها هو المؤمن ، وقال بعضها هو الإيمان والقرآن{[8720]} ، وهذه الأقوال متجهة مطرد معها المعنى فكأن اليهود لما تأولوا { الله نور السماوات والأرض } بمعنى الضوء ، قيل لهم ليس كذلك وإنما هو نور فإنه قوام كل شيء وهاديه مثل نوره في محمد أو في القرآن ، والإيمان { كمشكاة } وهي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه .
وهذه الأقوال الثلاثة تطرد فيها مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل ، فعلى قول من قال الممثل به محمد عليه السلام ، وهو قول كعب الحبر ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو «المشكاة » أو صدره ، و { المصباح } هو النبوءة وما يتصل بها من عمله وهداه ، و { الزجاجة } قلبه و «الشجرة المباركة » هي الوحي والملائكة رسل إليه وسببه المتصل به ، والزيت هو الحجج والبراهين ، والآيات التي تضمنها الوحي ، وعلى قول من قال الممثل به المؤمن وهذا قول أبي بن كعب ، ف «المشكاة » صدره ، و { المصباح } الإيمان والعلم ، و { الزجاجة } قلبه و «الشجرة » القرآن ، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها ، قال أبي فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، ومن قال إن الممثل به القرآن والإيمان فتقدير الكلام { مثل نوره } الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه { كمشكاة } ، أي كهذه الجملة وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان ، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة ، [ وذلك أن يريد : مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة ]{[8721]} كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ، أي فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أية البشر ، و «المشكاة » الكوة في الحائط غير النافذة ، قاله ابن جبير وسعيد بن عياض وجمهور المفسرين ، وهي أجمع للضوء ، و { المصباح } فيها أكثر إنارة من غيرها ، وقال مجاهد «المشكاة » العمود الذي يكون { المصباح } على رأسه ، وقال أبو موسى «المشكاة » الحديدة أو الرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة ، وقال مجاهد أيضاً «المشكاة » الحدائد التي يعلق بها القنديل ، والأول أصح هذه الأقوال ، وقوله { في زجاجة } لأنه جسم شفاف { المصباح } فيه أنور منه في غير الزجاج ، و { المصباح } الفتيل بناره وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمرو الداني الألف من «مشكاة » فكسر الكاف التي قبلها ، وقرأ نصر بن عاصم «في زَجاجة » بفتح الزاي ، و «الزجاجة » كذلك وهي لغة{[8722]} ، وقوله : { كأنها كوكب دري } أي في الإنارة والضوء وذلك يحتمل معنين : إما أن يريد انها بالمصباح كذلك ، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور ، قال الضحاك «الكوكب الدري » الزهرة ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «دُريّ » بضم الدال وشد الياء .
ولهذه القراءة وجهان : إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، وإما أن يكون أصله دريء مهموز من الدرء وهو الدفع وخففت الهمزة ، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «دريء » بالهمزة وهو فعيل من الدرء بمعنى أنها تدفع بعضها بعضاً أو بمعنى أن بهاءها يدفع خفاءها ، وفعيل بناء لا يوجد في الأسماء إلا في قولهم مريق للعصفور{[8723]} وفي السرية إذا اشتقت من السرو{[8724]} ، ووجه هذه القراءة أبو علي ، وضعفها غيره ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «دريء » على وزن فعيل بكسر الفاء من الدرء وهذه متوجهة ، وقرأ قتادة «دَريء » بفتح الدال والهمز قال أبو الفتح وهذا عزيز وإنما عزيز وإنما حفظ منه السكّينة بشد الكاف ، وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء ونصر بن عاصم «دري » بفتح الدال دون همزة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة والأعمش والحسن وقتادة وابن وثاب وعيسى «توقد » بضم التاء أي الزجاجة ، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة والحسن وابن محيصن «تَوَقّدُ » بفتح التاء والواو وشد القاف وضم الدال أي الزجاجة ، وقرأ أبو عمرو أيضاً وابن كثير «تَوقَد » بفتح التاء والدال أي المصباح ، وقرأ عاصم فيما روى عنه إسماعيل{[8725]} «يوقد » بالياء المرفوعة على معنى يوقد المصباح ، قال أبو الفتح وقرأ السلمي والحسن وابن محيصن وسلام وقتادة «يَوَقَّدُ » بفتح الياء والواو والقاف والمشددة ورفع الدال أصله يتوقد ، وقوله { من شجرة } أي من زيت شجرة ، و «المباركة » المنمأة ، و «الزيتون » من أعظم الثمار نماء واطراد أفنان وغضارة ولا سيما بالشام والرمان كذلك والعيان يقضي بذلك ، وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن امية «ابن شمس » : [ الخفيف ]
ليت شعري مسافر بن أبي عمرو . . . «وليتٌ » يقولها المحزون
بورك الميّت الغريب كما بو . . . رك الرمّانُ والزيتون{[8726]}
وقوله تعالى : { لا شرقية ولا غربية } قرأ الجمهور فيهما بالخفض عطفاً على { زيتونة } ، وقرأ الضحاك «لا شرقيةٌ ولا غربيةٌ » بالرفع{[8727]} ، واختلف المتأولون في معناه ، فقال ابن عباس فيما حكى عنه الطبري معناه أنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول لا يصح عندي عن ابن عباس لأن الوجود يقتضي أَن الشجرة التي تكون بهذه الصفة ينفسد جناها ، وقال الحسن ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية ، وقال ابن زيد أراد أَنها من شجر الشام لأن شجر الشام هي أفضل الشجر وهي «الأرض المباركة » ، وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم المعنى في قوله : { لا شرقية ولا غربية } أنها في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها أي فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية ، وقوله : { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } مبالغة في صفة صفائه وحسنه وجودته ، وقرأ الجمهور «تمسسه » بالتاء من فوق ، وقرأ ابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وقوله : { نور على نور } أي هذه كلها معاون تكامل بها هذا النور الممثل به وفي هذا الموضع تم المثال ، ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده وذكر تفضله في ضرب الأمثال للعباد ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان .