تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

ثم أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده ، فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ } أي : فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أخذ عليهم لعناهم ، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ، { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } أي : فلا يتعظون{[9431]} بموعظة لغلظها وقساوتها ، { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } أي : فسدت{[9432]} فُهومهم ، وساء تصرفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله ، وحملوه على غير مراده ، وقالوا عليه ما لم يقل ، عياذًا بالله من ذلك ، { وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : وتركوا العمل به رغبة عنه .

قال الحسن : تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله التي لا يقبل العمل إلا بها . وقال غيره : تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة ، فلا قلوب سليمة ، ولا فطر مستقيمة ، ولا أعمال قويمة .

{ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } يعني : مكرهم وغَدْرهم لك ولأصحابك .

وقال مجاهد وغيره : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك بالنبي ، صلى الله عليه وسلم .

{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } وهذا هو عين النصر والظفر ، كما قال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ، ولعل الله أن يهديهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني به : الصفح عمن أساء إليك .

وقال قتادة : هذه الآية { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } منسوخة بقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر [ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ] }{[9433]} [ التوبة : 29 ]


[9431]:في أ: "فلا تنتفع".
[9432]:في ر: "وفسدت".
[9433]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

يحتمل أن تكون «ما » زائدة والتقدير «فبنقضهم »{[4489]} ويحتمل أن تكون اسماً نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة ، التقدير : فبفعل هو نقضهم للميثاق ، وهذا هو المعنى في هذا التأويل ، وقد تقدم في النساء نظير هذا ، و { لعناهم } معناه بعدناهم من الخير أجمعه ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية » بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية » دون ألف ، وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم }{[4490]} وقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك }{[4491]} والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ، ومن قرأ قسيه فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية » ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد :

لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف{[4492]}

ومنه قول الآخر :

فما زوداني غير سحق عمامة *** وخمس مئىًء منها قسي وزائف{[4493]}

قال أبو علي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { يحرفون الكلم } فقال قوم منهم ابن عباس ، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارىء يده عليها ، وقالت فرقة : بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضاً وفعلوا الأمرين جميعاً بحسب ما أمكنهم .

قال القاضي أبو محمد : وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم }{[4494]} يقتضي التبديل . ولا شك أنهم فعلوا الأمرين . وقرأ جمهور الناس «الكَلِم » بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام » بالألف وقرأ أبو رجاء . «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام ، وقوله تعالى : { ونسوا حظاً مما ذكروا به } نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه ، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع { على خائنة منهم } وغائلة وأمور فاسدة ، واختلف الناس في معنى { خائنة } في هذا الموضع فقالت فرقة { خائنة } مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى : { فأهلكوا بالطاغية }{[4495]} فالمعنى على خيانة ، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث ، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر :

حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة ُمغَّل الاصبع{[4496]}

وقرأ الأعمش : «على خيانة منهم » ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص ، ويحتمل أن يكون في الأفعال ، وقوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية{[4497]} وباقي الآية وعد على الإحسان .


[4489]:-قال قتادة وسائر أهل العلم كما ذكره القرطبي، وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى: تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد، كما قال: * لشيء ما ُيَسَّود من يسود*
[4490]:- من الآية (22) من سورة (الزمر).
[4491]:- من الآية (74) من سورة (البقرة).
[4492]:- نسبه في (اللسان) لأبي زبيد أيضا، وكذلك في (التاج)- لكن محقق القرطبي قال: هو لأبي زيد الطائي، ولعله خطأ مطبعي، والصواهل: جمع الصاهلة، مصدر على فاعلة، من الصهيل وهو الصوت، والشاعر يصف وقع المساحي في =الحجارة، وما تحدثه من صوت، والسلام- بكسر السين-: الحجر، والقسيّات – بفتح القاف: الدراهم الزائفة، والصياريف: الذين يبدلون الدراهم.
[4493]:- البيت لمزرّد، كما في (اللسان)- والرواية فيه: "فما زودوني" وسحق عمامة: يريد عمامة خلقة بالية- من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهذا كقولهم: سحق ثوب، وجرد ثوب، وسمل ثوب: أي ثوب خلق.
[4494]:- من الآية (79) من سورة (البقرة).
[4495]:- من قوله تعالى في الآية (5) من سورة (الحاقة): {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية}.
[4496]:- هذا البيت للكلابي، وهو فيه يخاطب "قرينا" أخا "عمير الحنفي"، وكان له عنده دم- وقبله: أقرين إنك لو رأيت فوارسي َنَعما يبتن إلى جوانب َصْلقع
[4497]:-وهو قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}، وقيل: منسوخ بآية السيف، وقيل بقوله: {وإما تخافنّ من قوم خيانة}- وقال ابن جرير: يجوز أن يعفو عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ولم يمتنعوا من أداء جزية، وقيل: الضمير عائد على من آمن منهم، أي: عائد على المستثنين وهم القليل، والله أعلم.