يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى ، عليه السلام ، مع ما جاء به من الآيات{[14354]} البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات ، إلا قليل من قوم فرعون ، من الذرية - وهم الشباب{[14355]} - على وجل وخوف منه ومن مَلَئه ، أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر ؛ لأن فرعون كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتوّ ، وكانت{[14356]} له سَطْوة ومَهابة ، تخاف رعيته منه خوفا شديدا .
قال العوفي : عن ابن عباس : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } قال : فإن الذرية التي آمنت لموسى ، من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير ، منهم : امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه .
وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } يقول : بني إسرائيل .
وعن ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة( الذرية ) : القليل .
وقال مجاهد في قوله : { إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } يقول : بني إسرائيل . قال : هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى ، من طول الزمان ، ومات آباؤهم .
واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية : أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون ، لعود الضمير على أقرب المذكورين .
وفي هذا نظر ؛ لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب{[14357]} وأنهم من بني إسرائيل ، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى ، عليه السلام ، واستبشروا به ، وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة ، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه ؛ ولهذا لما بلغ هذا فرعون حَذَر كل الحذر فلم يُجْد عنه شيئا . ولما جاء موسى آذاهم فرعون{[14358]} أشد الأذى ، و { قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] . وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى ، وهم بنو إسرائيل ؟ .
{ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } أي : وأشراف قومهم أن يفتنهم ، ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يَفتِنَ عن الإيمان سوى قارون ، فإنه كان من قوم موسى ، فبغى عليهم ؛ لكنه كان طاويا{[14359]} إلى فرعون ، متصلا به ، متعلقا بحباله{[14360]} ومن قال : إن الضمير في قوله : { وَمَلَئِهِمْ } عائد إلى فرعون ، وعظم الملك{[14361]} من أجل اتباعه أو بحذف " آل " فرعون ، وإقامة المضاف إليه مقامه - فقد أبعد ، وإن كان ابن جرير قد حكاهما عن بعض النحاة .
{ فما آمن لموسى } أي في مبدأ أمره . { إلا ذرية من قومه } إلا أولاد من أولاد قومه بني إسرائيل دعاهم فلم يجيبوه خوفا من فرعون إلا طائفة من شبانهم ، وقيل الضمير ل { فرعون } والذرية طائفة من شبانهم آمنوا به ، أو مؤمن آل فرعون وامرأته آسية وخازنه وزوجته وماشطته { على خوف من فرعون وملئهم } أي مع خوف منهم ، والضمير ل { فرعون } وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء ، أو على أن المراد ب { فرعون } آله كما يقال : ربيعة ومضر ، أو للذرية أو للقوم . { أن يفتنهم } أن يعذبهم فرعون ، وهو بدل منه أو مفعول خوف وإفراده بالضمير للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه . { وإن فرعون لعالٍ في الأرض } لغالب فيها . { وإنه لمن المسرفين } في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء .
تفريع على ما تقدم من المحاورة ، أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود ، فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازاً . والتقدير : تفرع على ذلك تصميم على الإعراض .
وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض ، وهو إلقاء موسى عصاه والتقامُها ما ألقوه من سحرهم ، لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة .
وفعل { آمن } أصله ( أَأْمن ) بهمزتين : إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة ، والثانية همزة مزيدة للتعدية ، أي جعله ذَا أمانة ، أي غير كاذب فصار فعل { آمن } بمعنى صدّق ، وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين ( آمن ) بمعنى صدّق من الأمانة وبين ( آمن ) بمعنى جَعله في أمن ، أي لا خوف عليه منه .
وهذه اللام سماها ابنُ مالك لامَ التبيين وتبعه ابن هشام ، وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية ، ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل ( آمن ) بمعنى صدّق دفعُ أن يلتبس بفعل ( آمنه ) إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك } في سورة [ الإسراء : 90 ] .
وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدّق كما في قوله تعالى : { قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } [ يونس : 90 ] .
والذرية : الأبناء وتقدم في قوله : { ذُرية بعضها من بعض } في سورة [ آل عمران : 34 ] . أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذٍ .
و ( على ) في قوله : { على خوف من فرعون } بمعنى ( مع ) مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم ، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من ( ذرية ) ، أي في حال خوفهم المتمكن منهم . وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خَوفهم من فرعون .
والمعنى : أنهم آمنوا عند ظهور معجزته ، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار . أي من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل فإن عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء ، كما يُقال : الغلمان ، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم ، وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به ، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله : { اذهبا إلى فرعون إنه طغى } [ طه : 43 ] فيكون المأمور به ابتداء هو دعوة فرعون وتخليص بني إسرائيل من الأسر .
و ( الملأ ) تقدم آنفاً في هذه القصة ، وأضيف الملأ إلى ضمير الجمع وهو عائد إلى الذرية ، أي على خوف من فرعون وعلى خوف من قومهم ، وهم بقية القوم الذين لم يحضروا ذلك المشهد خشية أن يغضبوا عليهم ويؤذوهم لإيمانهم بموسى لما يتوقعون من مؤاخذة فرعون بذلك جميع قبيلتهم على عادة الجبابرة في أخذ القبيلة بفعلة من بعض رجالها .
و ( الفتن ) إدخال الروع والاضطراب على العقل بسبب تسليط ما لا تستطيع النفس تحمله ، وتقدم في قوله تعالى : { والفتنة أشد من القتل } في سورة [ البقرة : 191 ] . فهذا وجه تفسير الآية .
وجملة : وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين } في موضع الحال فهي عطف على قوله : { على خوف من فرعون } وهي تفيد معنى التعليل لخوفهم من فرعون ، أي أنهم محقون في خوفهم الشديد ، فبعد أن أثنى عَليهم بأنهم آمنوا في حال شدة الخوف زاد فبين أنهم أحقاء بالخوف ، وفي هذا زيادة ثناء على قوة إيمانهم إذ آمنوا في حال خوفهم من الملك مع قدرته على أذاهم ، ومن مَلئهم ، أي قومهم ، وهو خوف شديد ، لأن آثاره تتطرق المرء في جميع أحواله حتى في خلوته وخويصته لشدة ملابسةِ قومه إياه في جميع تقلباته بحيث لا يجد مفراً منهم ، ثم اتبعه ببيان اتساع مقدرة فرعون بيان تجاوزه الحد في الجور ، ومَن هذه حالته لا يزَعه عن إلحاق الضر بأضداده وازع .
وتأكيد الخبر ب ( إن ) للاهتمام بتحقيق بطش فرعون .
والعلو : مستعار للغلبة والاستبداد ، كقوله تعالى : { إن فرعون علا في الأرض } وقوله : { أن لا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين } [ النمل : 31 ] .
والإسراف : تجاوز حد الاعتدال المعروف في فعل ، فهو تجاوز مذموم ، وأشهر موارده في الإنفاق ، ولم يذكر متعلَّق الإفراط فتعيَّن أن يكون إسرافاً فيما عُرف به ملوك زمانهم من الصفات المكروهة عند الناس الملازمة للملوك في العادة .
وقوله : { من المسرفين } أبلغ في وصفه بالإسراف من أن يقال : وإنه لَمُسرف لما تقدم عند قوله تعالى : { قد ضللتُ إذن وما أنا من المهتدين } في [ الأنعام : 56 ] .