يقول تعالى : { ويستعجلونك }{[15444]} أي : هؤلاء المكذبون { بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } أي : بالعقوبة ، كما أخبر عنهم في قوله : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ } [ الحجر : 6 - 8 ] وقال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 53 ، 54 ] وقال : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] وقال : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [ الشورى : 18 ] { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ ص : 16 ] أي : حسابنا وعقابنا ، كما قال مخبرا عنهم : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] فكانوا{[15445]} يطلبون من الرسول أن يأتيهم بعذاب الله ، وذلك من شدة تكذيبهم وكفرهم وعنادهم .
قال الله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ } أي : قد أوقعنا نقمتنا بالأمم الخالية وجعلناهم مثلة وعبرة وعظة لمن اتعظ بهم .
ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه [ وغفره ]{[15446]} لعالجهم بالعقوبة ، كما قال تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ]{[15447]} .
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } أي : إنه ذو عفو وصفح{[15448]} وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار . ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ، ليعتدل الرجاء والخوف ، كما قال تعالى : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ الأنعام : 147 ] وقال : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأعراف : 167 ] وقال : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } [ الحجر : 49 ، 50 ] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسَيَّب قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا عفوُ الله وتجاوُزه ، ما هنأ أحدا العيش{[15449]} ولولا وعيده{[15450]} وعقابه ، لاتكل كل أحد " {[15451]} .
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الزيادي : أنه رأى رب العزة في النوم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته ، فقال له : ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } ؟ قال : ثم انتبهت . {[15452]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويستعجلونك}، وذلك أن النضر بن الحارث قال: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال:32]، فقال الله عز وجل: {ويستعجلونك}... {بالسيئة قبل الحسنة}، يعني بالعذاب قبل العافية... {وقد خلت من قبلهم}، يعني أهل مكة، {المثلات}، يعني العقوبات في كفار الأمم الخالية، فسينزل بهم ما نزل بأوائلهم. ثم قال: {وإن ربك لذو مغفرة}، يعني ذو تجاوز، {للناس على ظلمهم}، يعني على شركهم بالله في تأخير العذاب عنهم إلى وقت، يعني الكفار، فإذا جاء الوقت عذبناهم بالنار، فذلك قوله: {وإن ربك لشديد العقاب} إذا عذب وجاء الوقت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ويستعجلونك" يا محمد مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، فيقولون: "اللّهُمّ إنْ كانَ هذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجَارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ "وهم يعلمون ما حلّ بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصت ربها وكذّبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه، فمن بين أمة مُسِخت قِرَدة وأخرى خنازير، ومن بين أمة أهلكت بالرجْفَة، وأخرى بالخسف، وذلك هو المُثلات التي قال الله جلّ ثناؤه: "وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ المَثُلاتُ والمَثُلات": العقوبات المنكّلات... وقوله: "وَإنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للنّاسِ على ظُلْمِهِمْ" يقول تعالى ذكره: وإن ربك يا محمد لذو ستر على ذنوب من تاب من ذنوبه من الناس، فتارك فضيحَته بها في موقف القيامة، وصافحٌ له عن عقابه عليها عاجلاً وآجلاً على ظلمهم. يقول: على فعلهم ما فعلوا من ذلك بغير إذن لهم بفعله. "وَإنّ رَبّكَ لَشَدِيدُ العِقابِ" لمن هلك مُصرّا على معاصيه في القيامة إن لم يُعَجّلِ له ذلك في الدنيا، أو يجمعهما له في الدنيا والآخرة. وهذا الكلام وإن كان ظاهُره ظاهرَ خير، فإنه وعيد من الله وتهديد للمشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن هم لم ينيبوا ويتوبوا من كفرهم قبل حلول نقمة الله بهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار يطلبون منك ما يسوؤهم أن يعجل لهم، كما قالوا:"أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" قبل أن يسألوا الإحسان بالانتظار لهم، وقد حكم الله تعالى أن يمهلهم التوبة. ثم يأخذ من أقام على القبح بالعقوبة.
والاستعجال:طلب التعجيل، والتعجيل تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له. والسيئة: خصلة تسوء النفس... والحسنة: خصلة تسر النفس وقد يعبر بهما عن الطاعة، والمعصية.
وقوله: "خلت من قبلهم المثلاث "أي مضت بانقضائها كمضي أهل الدار عنها، يقال: خلت الديار بهلاك أهلها وخلوهم بخلو مكانهم منها.
والمثلاث: العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله...
ثم قال: "وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم" على وجه الإخبار عن نفسه بالرحمة بخلقه والتفضل عليهم بأنه يغفر للناس على كونهم ظالمين...
وقوله" وإن ربك لشديد العقاب "إخبار منه تعالى بأنه كما يغفر تارة مع الظلم، كذلك قد يعاقب مع الاصرار عذابا شديدا فلا تغتروا بذلك ولا تعولوا على مجرد العفو لأنه يجوز أن لا يعفو.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"ويستعجلونك..." وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره.
{وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} أي عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا. والمثلة: العقوبة... والمثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] ويقال: أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه. والمثال: القصاص.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}... الظاهر من معنى «المغفرة» هنا إنما هو ستره في الدنيا وإمهاله للكفرة، ألا ترى التيسير في لفظ {مغفرة}، وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة كما في قوله: {وإني لغفار لمن تاب} [طه: 82] ونمط الآية يعطي هذا، ألا ترى حكمه عليهم بالنار، ثم قال: {ويستعجلونك} فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم، فأخبر بسيرته في الأمم وأنه يمهل مع ظلم الكفر، ولم يرد في الشرع أن الله تعالى يغفر ظلم العباد...
و {المثلات} هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلاً يتمثل به...
اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر، وهو الذي تقدم ذكره في الآية الأولى، وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له: فأتنا بهذا العذاب وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن فيه، وإظهار أن الذي يقوله كلام لا أصل له، فلهذا السبب حكى الله عنهم أنهم يستعجلون الرسول بالسيئة قبل الحسنة، والمراد بالسيئة ههنا نزول العذاب عليهم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{ويستعجلونك} أي: هؤلاء المكذبون {بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي: بالعقوبة... فكانوا يطلبون من الرسول أن يأتيهم بعذاب الله، وذلك من شدة تكذيبهم وكفرهم وعنادهم. قال الله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} أي: قد أوقعنا نقمتنا بالأمم الخالية وجعلناهم مثلة وعبرة وعظة لمن اتعظ بهم. ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه [وغفره] لعالجهم بالعقوبة، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} أي: إنه ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار. ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب، ليعتدل الرجاء والخوف، كما قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147] وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167] وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ} [الحجر: 49، 50] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى عن جهل المكذبين لرسوله المشركين به، الذين وعظوا فلم يتعظوا، وأقيمت عليهم الأدلة فلم ينقادوا لها، بل جاهروا بالإنكار، واستدلوا بحلم [الله] الواحد القهار عنهم، وعدم معاجلتهم بذنوبهم أنهم على حق، وجعلوا يستعجلون الرسول بالعذاب، ويقول قائلهم: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} {و} الحال أنه {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} أي: وقائع الله وأيامه في الأمم المكذبين، أفلا يتفكرون في حالهم ويتركون جهلهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} أي: لا يزال خيره إليهم وإحسانه وبره وعفوه نازلا إلى العباد، وهم لا يزال شرهم وعصيانهم إليه صاعدًا، يعصونه فيدعوهم إلى بابه، ويجرمون فلا يحرمهم خيره وإحسانه، فإن تابوا إليه فهو حبيبهم لأنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بالمصائب، ليطهرهم من المعايب {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} على من لم يزل مصرا على الذنوب، قد أبى التوبة والاستغفار والالتجاء إلى العزيز الغفار، فليحذر العباد عقوباته بأهل الجرائم، فإن أخذه أليم شديد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكما أنهم لا ينظرون في آفاق الكون، وآيات الله المبثوثة في السماء والأرض، فهم لا ينظرون إلى مصارع الغابرين الذين استعجلوا عذاب الله فأصابهم؛ وتركهم مثلة يعتبر بها من بعدهم... (وإن ربك لشديد العقاب) والسياق يقدم هنا مغفرة الله على عقابه، في مقابل تعجل هؤلاء الغافلين للعذاب قبل الهداية. ليبدو الفارق الضخم الهائل بين الخير الذي يريده الله لهم، والشر الذي يريدونه لأنفسهم. ومن ورائه يظهر انطماس البصيرة، وعمى القلب، والانتكاس الذي يستحق درك النار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {ويستعجلونك} عطفٌ على جملة {وإن تعجب} [الرعد: 5]، لأن كلتا الجملتين حكاية لغريب أحوالهم في المكابرة والعناد والاستخفاف بالوعيد. فابتدأ بذكر تكذيبهم بوعيد الآخرة لإنكارهم البعث، ثم عطف عليه تكذيبهم بوعيد الدنيا لتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم... وسياق الآية يدل على أن المراد بالمغفرة هنا التجاوز عن المشركين في الدنيا بتأخير العقاب لهم إلى أجل أراده الله أو إلى يوم الحساب، وأن المراد بالعقاب في قوله: {وإن ربك لشديد العقاب} ضد تلك المغفرة وهو العقاب المؤجل في الدنيا أو عقاب يوم الحساب، فمحمل الظلم على ما هو المشهور في اصطلاح القرآن من إطلاقه على الشرك...
وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه ما وصلوا إليه من خلل في نفوسهم وفسادهم؛ ذلك أن مقاييسهم انتهت إلى الكفر، وليس أدل على فساد المقاييس إلا استعجالهم للسيئة قبل الحسنة؛ لأن العاقل حين يخير بين أمرين؛ فهو يستعجل الحسنة؛ لأنها تنفع، ويستبعد السيئة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، وهو أسلوب الكفار في التحدّي الذي لا يسعى إلى مد جسور الحوار وإيجاد أرضيةٍ للتفاهم، بل يسعى إلى تنفيس عقدة الغيظ التي تعتمل في داخلهم أمام حالة العجز التي يشعرون بها في مواجهة الطرح الفكري للرسالة والإيمان، فيطلبون من النبي من موقع التحدي الإتيان بالعذاب ليدمر الكافرين، إذا كان هناك عذابٌ من قِبَل الله، بهدف إحراج النبيّ، أو تدمير النفس، وإنهاءً لحالة الحيرة التي يعيشونها بين إمكان تحقيق ذلك وعدم إمكانه. وهكذا يستعجلون السيئة وهي العقاب الذي يترتب على كفرهم وعنادهم، قبل الحسنة التي هي ثواب الله الذي ينبغي للإنسان أن يتطلع إليه من خلال رحمة الله، والسير على خط الإيمان والطاعة، {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ}، وهي العقوبات التي تترك أثرها على الجسد، التي كان ينزلها على الكافرين من قبلهم، فلا يتّعظون ولا يخافون ولا يأخذون العبرة من هذا الماضي لحساب الحاضر، وهي حال الناس الذين لا يدرسون الأمور بالعمق الذي يربطهم بحقيقة الحياة الحاسمة، بل من موقع اللحظة الحاضرة التي تتحرك فيها الشهوة والمصلحة والعوامل الذاتية، ما يجعلهم يختارون لأنفسهم المصير الذي لا ينسجم مع مصلحتهم الحقيقية، ولا يلتفتون إلى أن الله يملك العقاب كله، والثواب كله، ويرجع إليه أمر المصير الذي يلتقي فيه كل الناس، الأمر الذي يفرض عليهم أن يرجعوا إليه ويرتبطوا بخط طاعته، إذا أرادوا لأنفسهم الخير والنجاح. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} لأنفسهم بالمعصية فيعفو عنهم، إذا عرف منهم صدق النية في التوبة، والإخلاص في الموقف، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} للمتمردين والعاصين والمعاندين الذين يصرّون على الكفر والمعصية. وربما كان المراد من المغفرة هنا، إمهال الله لعباده العصاة، أو الكَفَرة، وعدم تعجيل العقوبة لهم، باعتبار أن الآية تتعرض لحالةٍ واحدةٍ تتعلق بالكافرين، ولا تتحدث عن صفات الله في المطلق، وهذا احتمال قريبٌ، لولا أن الأسلوب القرآني قد درج في أكثر موارده على هذا النوع من الحديث عن الله بشكلٍ عام، في نطاق الأمور الجزئية دون الارتباط بالحالة الخاصة...