قال ابن عباس ، وعكرمة ، وعطاء بن أبي مسلم : الفراغ والنوم .
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وابن مالك ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وسفيان الثوري : فراغًا طويلا .
وقال قتادة : فراغا وبغية ومنقلبا .
وقال السدي : { سَبْحًا طَوِيلا } تطوعا كثيرًا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { [ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ ] سَبْحًا طَوِيلا } {[29419]} قال : لحوائجك ، فَأفْرغ لدينك الليل . قال : وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله من على العباد فخففها ووضعها ، وقرأ : { قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا } إلى آخر الآية ، ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ } حتى بلغ : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ الليل نصفه أو ثلثه . ثم جاء أمر أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه وعن أمته ]{[29420]} فقال : قال : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء : 49 ] وهذا الذي قاله كما قاله .
والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا يحيى ، حدثنا سعيد ابن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى ، عن سعيد بن هشام : أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارًا له بها ويجعله في الكُرَاع والسلاح ، ثم يجاهد الروم حتى يموت . فلقي رهطًا من قومه فحدثوه أن رهطًا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أليس لكم فيّ أسوة{[29421]} ؟ "
فنهاهم عن ذلك ، فأشهدهم على رَجعتها ، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم قال : ائت عائشة فاسألها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك . قال : فأتيت على حكيم بن أفلحَ فاستلحقتُه إليها ، فقال : ما أنا بقاربها ؛ إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا ، فأبت فيهما إلا مُضِيًا . فأقسمتُ عليه ، فجاء معي ، فدخلنا عليها فقالت : حكيم ؟ وعرفته ، قال : نعم . قالت : من هذا معك ؟ قال : سعيد بن هشام . قالت : من هشام ؟ قال : ابن عامر . قال : فترحمت عليه وقالت : نعم المرء كان عامر . قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن خلق رسول صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى{[29422]} قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن . فَهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم . ألست تقرأ هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } ؟ قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة . فهممت{[29423]} أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : كنا نعد له سِواكه وطَهُوره ، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو [ ويستغفر ثم ينهض وما يسلم . ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد ربه ويذكره ويدعو ]{[29424]} ثم يسلم تسليمًا يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم . فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني . فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم ، أوتر بسبع ، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها ، وكان{[29425]} إذا شَغَله عن قيام الليل نوم أو وَجَع أو مرض ، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا قام ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرًا كاملا غير رمضان .
فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها ، فقال : صدقت ، أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة .
هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه . وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث قتادة ، بنحوه . {[29426]}
طريق أخرى عن عائشة في هذا المعنى : قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا زيد بن الحُبَاب - وحدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْران قالا جميعا ، واللفظ لابن وكيع : عن موسى بن عُبَيدة ، حدثني محمد بن طَحْلاء ، عن أبي سلمة ، عن عائشة قالت : كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يُصَلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فاجتمعوا ، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيما ، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل - فقال : " أيها الناس ، اكلَفُوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يَمَلّ من الثواب حتى تملوا من العمل ، وخير الأعمال ما ديمَ عليه " . ونزل القرآن : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر ، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه ، فرحمهم فردهم إلى الفريضة ، وترك قيام الليل . {[29427]}
ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي ، وهو ضعيف . والحديث في الصحيح{[29428]} بدون زيادة نزول هذه السورة ، وهذا السياق قد يُوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة ، وليس كذلك ، وإنما هي مكية . وقوله في هذا السياق : إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر - غريب ؛ فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مِسْعَر ، عن سِماك الحنفي ، سمعت ابن عباس يقول : أول ما نزل : أول المزمل ، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة .
وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن أبي أسامة ، به . {[29429]}
وقال الثوري ومحمد بن بشر العَبدي ، كلاهما عن مسعر ، عن سماك ، عن ابن عباس : كان بينهما سنة . وروى ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْرَان ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن أبي عبد الرحمن قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسُوقُهم ، حتى نزلت : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } قال : فاستراح الناس . {[29430]}
وقال ابن أبي حاتم : [ حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عُبَيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ]{[29431]} عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام قال : فقلت - يعني لعائشة - : أخبرينا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : ألست تقرأ : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } ؟ قلت : بلى . قالت : فإنها كانت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى انتفخت أقدامهم ، وحُبس آخرها في السماء ستة عشر شهرًا ، ثم نزل .
وقال مَعْمَر ، عن قتادة : { قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا } قاموا حولا أو حولين ، حتى انتفخت سوقُهم وأقدامهم فأنزل الله تخفيفها بعد في آخر السورة .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُميد ، حدثنا يعقوب القمي{[29432]} عن جعفر ، عن سعيد - هو ابن جبير - قال : لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل ، كما أمره ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه ، فأنزل الله عليه بعد عشر سنين : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ } إلى قوله : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين . {[29433]}
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عمرو بن رافع ، عن يعقوب القمي{[29434]} به .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا [ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا } فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا ] {[29435]} فشق ذلك على المؤمنين ، ثم خفف الله عنهم ورحمهم ، فأنزل بعد هذا : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ } إلى قوله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فوسع الله - وله الحمد - ولم يضيق .
قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن لك يا محمد في النهار فراغا طويلاً تتسع به ، وتتقلّب فيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس سَبْحا طَوِيلاً فراغا طويلاً ، يعني النوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً قال : متاعا طويلاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله سَبْحا طَوِيلاً قال : فراغا طويلاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً قال : لحوائجك ، فافرُغ لدينك الليل ، قالوا : وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله منّ على العباد فخفّفها ووضعها ، وقرأ : قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَليلاً . . . إلى آخر الاَية ، ثم قال : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللّيْلِ حتى بلغ قوله : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ الليل نصفه أو ثلثه ، ثم جاء أمر أوسع وأفسح ، وضع الفريضة عنه وعن أمّته ، فقال : وَمِنَ اللّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نافِلَة لَكَ عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً فراغا طويلاً . وكان يحيى بن يعمر يقرأ ذلك بالخاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، عن غالب الليثي ، عن يحيى بن يعمر «من جذيلة قيس » أنه كان يقرأ : «سَبْخا طَوِيلاً » قال : وهو النوم .
قال أبو جعفر : والتسبيخ : توسيع القطن والصوف وتنفيشه ، يقال للمرأة : سبّخي قطنك : أي نفشيه ووسعيه ومنه قول الأخطل :
فأرْسَلُوهُنّ يُذْرِينَ التّرَابَ كمَا *** يُذْرِي سَبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتارِ
وإنما عني بقوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً : إن لك في النهار سعة لقضاء حوائجك وقومك . والسبح والسبخ قريبا المعنى في هذا الموضع .
فصل هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها ، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذٍ على المشهور ، ولم يفرض حينئذٍ إلاّ قيام الليل .
فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة { إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً } [ المزمل : 6 ] وذلك دائر : بين أن يكون تعليلاً لاختيار الليل لفرض القيام عليه فِيه ، فيفيد تأكيداً للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غَناءه فيتحصل من المعنى : قم الليل لأن قيامه أشد وقعاً وأرسخ قولاً ، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك . وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقادَ المؤمنين المستضعفين ، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل ، وبيْن أن يكون تلطفاً واعتذاراً عن تكليفه بقيام الليل ، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإِيقاع ما عسى أن يكلفه فيامُ الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه .
ويجوز أن يكون تعليلاً لما تضمنه { أو انقص منه قليلاً } [ المزمل : 3 ] ، أي إن نقصتَ من نصف الليل شيئاً لا يَفُتْكَ ثواب عمله ، فإن لك في النهار متسعاً للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى : { وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شُكوراً } [ الفرقان : 62 ] .
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلّى } [ العلق : 9 ، 10 ] . وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ . ويظهر أن يكون كل هذا مقصوداً لأنه مما تسمح به دلالة كلمة { سبحاً طويلاً } وهي من بليغ الإِيجاز .
والسبح : أصله العوم ، أي السلوك بالجسم في ماء كثير ، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياءُ السير في الأرض .
وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرىء القيس الخيل بالسابحات في قوله في مَدح فرسه :
مُسحَ إذا ما السابحات على الوَنى *** أثْرْنَ الغُبار في الكَديد المركَّل
وفسر ابن عباس السبح بالفراغ ، أي لينام في النهار ، وقال ابن وهب عن ابن زيد قال : فراغاً طويلاً لحوائجك فافرغ لدينك بالليل .
والطويل : وصف من الطول ، وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقاديرِ أكثرِ أمثاله . فالطول من صفات الذوات ، وشاع وصف الزمان به يقال : ليل طويل وفي الحديث « الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه »
وأما وصف السَّبح ب ( طويل ) في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه . وبعدَ هذا ففي قوله { طويلاً } ترشيح لاستعارة السَّبح للعمل في النهار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني فراغا طويلا لنومك ولحاجتك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن لك يا محمد في النهار فراغا طويلاً تتسع به، وتتقلّب فيه...
عن ابن عباس:"سَبْحا طَوِيلاً": فراغا طويلاً، يعني النوم.
عن مجاهد، قوله: "سَبْحا طَوِيلاً": متاعا طويلاً.
قال ابن زيد، في قوله: "إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً": لحوائجك، فافرُغ لدينك الليل، قالوا: وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة، ثم إن الله منّ على العباد فخفّفها ووضعها. وقرأ: "قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَليلاً..." إلى آخر الآية، ثم قال: "إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللّيْلِ" حتى بلغ قوله: "فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ" الليل نصفه أو ثلثه، ثم جاء أمر أوسع وأفسح، وضع الفريضة عنه وعن أمّته، فقال: "وَمِنَ اللّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نافِلَة لَكَ عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا"...
وإنما عني بقوله: "إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً": إن لك في النهار سعة لقضاء حوائجك وقومك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أبو بكر والزجاج: السبح: السعة؛ كأنه قال: إن لك في النهار سعة طويلة في تبليغ الرسالة والقيام به، فتفرغ بالليالي لعبادة ربك. وقيل: {إن لك في النهار سبحا طويلا} أي فراغا وسعة ومتقلبا، فالسبح يذكر، ويراد به الفراغ، ويذكر، ويراد به المشي والتقلب. وهذا الذي قالوه محتمل، ولكن لا يجيء أن يصرف تأويل الآية إلى الفراغ والتقلب إلى حوائج نفسه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتناول من الدنيا إلا قدر ما يقيم به حاجته، فلا يحتاج إلى فضل تقلب ولا إلى كثير فراغ ليتوسع في أمر دنياه، ولكن حقه أن ينصرف بقلبه إلى تبليغ الرسالة ودعاء الخلق إلى توحيد الله تعالى وإلى ما يحق عليهم، فيكون في قوله: {إن لك في النهار سبحا طويلا} ترخيص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أن ينتصب بالليل للقيام بين يديه واجتزاء منه بتبليغ الرسالة بالنهار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال قوم من أهل العلم إنما معنى الآية التنبيه على أنه إن فات حزب الليل بنوم أو عذر فليخلف بالنهار فإن فيه {سبحاً طويلاً}.
واعلم أنه تعالى أمر رسوله أولا بقيام الليل، ثم ذكر السبب في أنه لم خص الليل بذلك دون النهار، ثم بين أن أشرف الأعمال المأمور بها عند قيام الليل ما هو.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين سبحانه من أول السورة إلى هنا ما به صلاح الدين الذي عصمة الأمر وبه صلاح الدارين، وأظهر ما للتهجد من الفضائل، فكان التقدير حتماً: فواظب عليه لتناول هذه الثمرات، قال معلّلاً محققاً له مبيناً ما به صلاح الدنيا التي هي فيها المعاش، وصلاحها وسيلة إلى صلاح المقصود، وهو الدين وهو الذي ينبغي له لئلا يكون كلاًّ على الناس ليحصل من الرزق ما يعينه على دينه ويوسع به على عيال الله من غير ملل ولا ضجر ولا كسل ولا مبالغة، مؤكداً لما للنفس من الكسل عنه: {إن لك} أي أيها المتهجد أو يا أكرم العباد إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون آكد في إلزام الأمة به {في النهار} الذي هو محل السعي في مصالح الدنيا.
ولما كان الإنسان يهتم في سعيه لنفسه حتى يكون كأنه لشدة عزمه وسرعة حركته كالسابح فيما لا عائق له فيه قال: {سبحاً طويلاً *} أي تقلباً ممتد الزمان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف.. والقرآن في مبناه ليس ثقيلا فهو ميسر للذكر. ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل في أثره في القلب: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) فأنزله الله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه..
وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن الاتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها؛ والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي.. إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فصل هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذٍ على المشهور، ولم يفرض حينئذٍ إلاّ قيام الليل.
فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة {إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً} [المزمل: 6] وذلك دائر: بين أن يكون تعليلاً لاختيار الليل لفرض القيام عليه فِيه، فيفيد تأكيداً للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غَناءه فيتحصل من المعنى: قم الليل لأن قيامه أشد وقعاً وأرسخ قولاً، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك. وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقادَ المؤمنين المستضعفين، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل، وبيْن أن يكون تلطفاً واعتذاراً عن تكليفه بقيام الليل، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإِيقاع ما عسى أن يكلفه قيامُ الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه.
ويجوز أن يكون تعليلاً لما تضمنه {أو انقص منه قليلاً} [المزمل: 3]، أي إن نقصتَ من نصف الليل شيئاً لا يَفُتْكَ ثواب عمله، فإن لك في النهار متسعاً للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شُكوراً} [الفرقان: 62].
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلّى} [العلق: 9، 10]. وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ. ويظهر أن يكون كل هذا مقصوداً لأنه مما تسمح به دلالة كلمة {سبحاً طويلاً} وهي من بليغ الإِيجاز.
والسبح: أصله العوم، أي السلوك بالجسم في ماء كثير، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء، فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياءُ السير في الأرض.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً} من جهة ما يخوض فيه الناس من أشغال ومهمات وأوضاع على مستوى الدعوة والحركة والعلاقة والتحدي والصراع، تماماً كما هي السباحة في الماء التي يواجه فيها السابحون التيارات القويّة، فينزلون إلى الأعماق تارةً، ويمتدون مع التيار أحياناً، ويرتفعون مع الأمواج الطاغية أحياناً أخرى، لتأخذ كل الحركة من جهدهم البدني، ومن هدوئهم النفسي، مما لا يدع لهم أيّ شعورٍ بالفراغ، وأيّ إحساسٍ بالانفتاح على الذات وعلى الحياة، ولهذا كان الليل ساحة الذكر والقيام والروحانية، والهدوء المنساب مع صفاء الظلام.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أي إنّك مشغول بهداية الخلق وإبلاغ الرسالة وحلّ المشاكل المتنوعة، ولا مجال لك بالتوجه التام إلى ربّك والانقطاع إليه بالذكر، فعليك بالليل والعبادة فيه.
وهناك معنى أدق وتفسير يناسب الآيات السابقة أيضاً هو: أنّك تتحمل في النهار مشاغل ثقيلة ومساعي كثيرة، فعليك بعبادة الليل لتقوى بها روحك وتستعد للفعاليات والنشاطات الكثيرة في النهار.