{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } قال بعضهم : بقولهن . وقال محمد بن إسحاق : بل{[15145]} بَلَغهُنَّ حُسْنُ يوسف ، فأحببن أن يرينه ، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته ، فعند ذلك { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي : دعتهن إلى منزلها لتضيفهن { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً }
قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، وغيرهم : هو المجلس المعد ، فيه مفارش ومخاد وطعام ، فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج{[15146]} ونحوه . ولهذا قال تعالى : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا } وكان هذا مكيدة منها ، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته ، { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر ، { فَلَمَّا } خرج و { رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي : أعظمن شأنه ، وأجللن قدره ؛ وجعلن يقطعن أيديهن دَهَشا برؤيته ، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج{[15147]} بالسكاكين ، والمراد : أنهن حززن أيديهن بها ، قاله غير واحد .
وعن مجاهد ، وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها ، فالله{[15148]} أعلم .
وقد ذكر عن زيد بن أسلم أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن ، ثم وضعت بين أيديهن أترجا{[15149]} وآتت كل واحدة منهن سكينا : هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن : نعم . فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن{[15150]} فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن ، ثم أمرته أن يرجع فرجع ليرينه مقبلا ومدبرا ، وهن يحززن في أيديهن ، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن ، فقالت : أنتن من نظرة واحدة فعلتن هكذا ، فكيف ألام أنا ؟ فقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ، ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد الذي رأينا ، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبا منه ، فإنه ، صلوات الله عليه وسلم{[15151]} كان قد أعطي شطر الحسن ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف ، عليه السلام ، في السماء الثالثة ، قال : " فإذا هو قد أعطي شطر الحسن " {[15152]} وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطي يوسف وأمه شطر الحسن " {[15153]} وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن .
وقال أبو إسحاق أيضا ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : كان وجه يوسف مثل البرق ، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به .
ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا ، وأعطى الناس الثلثين - أو قال : أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث " {[15154]} وقال سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد عن ربيعة الجُرَشي قال : قسم الحسن نصفين ، فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن . والنصف الآخر بين سائر الخلق .
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي : معناه : أن يوسف كان على النصف من حسن آدم ، عليه السلام ، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها ، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله ، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه .
فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته : { حَاشَ لِلَّهِ } قال مجاهد وغير واحد : معاذ الله ، { مَا هَذَا بَشَرًا } وقرأ بعضهم : " ما هذا بِشِرىً " أي : بمشترى .
{ إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق بأن يحبّ لجماله وكماله .
{ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي : فامتنع . قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر ، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن ، وهي{[15155]} العفة مع هذا الجمال ، ثم قالت تتوعد{[15156]} { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } فعند ذلك استعاذ يوسف ، عليه السلام ، من شرهن وكيدهن ، وقال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } أي : من الفاحشة ، { وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي : إن وكلتني إلى نفسي ، فليس لي من نفسي قدرة ، ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك ، أنت المستعان وعليك التكلان ، فلا تكلني إلى نفسي .
{ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وذلك أن يوسف ، عليه السلام ، عَصَمه الله عصمة عظيمة ، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع ، واختار السجن على ذلك ، وهذا في غاية مقامات الكمال : أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته ، وهي امرأة عزيز مصر ، وهي مع هذا في{[15157]} غاية الجمال والمال ، والرياسة ويمتنع من ذلك ، ويختار السجن على ذلك ، خوفا من الله ورجاء ثوابه .
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله{[15158]} ورجل قلبه معلق بالمسجد{[15159]} إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا{[15160]} عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب ، فقال : إني أخاف الله " {[15161]}
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مّن الصّاغِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطعن أيديهن ، فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه وفي نظرة منكن نظرتن إليه ما أصابكن من ذهاب العقل وغروب الفهم ولها إليه حتى قطعتنّ أيديكنّ ، هو الذي لمتنني في حبي إياه وشغف فؤادي به ، فقلتنّ : قد شغف امرأة العزيز فتاها حبّا { إنا لنراها في ضلال مبين } . ثم أقرّت لهنّ بأنها قد راودته عن نفسه ، وأن الذي تحدثن به عنها في أمره حقّ ، فقالت : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ } ، مما راودته عليه من ذلك . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قالت : { فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ } ، تقول : بعد ما حلّ السراويل استعصى ، لا أدري ما بدا له .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فاسْتَعْصَمَ } ، أي : فاستعصى .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { فاسْتَعْصَمَ } ، يقول : فامتنع .
وقوله : { لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَننّ وَلَيَكُونا مِنَ الصّاغِرِينَ } ، تقول : ولئن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه من حاجتي إليه { ليسجننّ } ، تقول : ليحبسنّ في السجن ، وليكونا من أهل الصغار والذلة بالحبس والسجن ، ولأهيننه . والوقف على قوله : { ليسجننّ } ، بالنون لأنها مشددة ، كما قيل : { لَيُبَطّئَنّ } .
وأما قوله : { وَلَيَكُونا } ، فإن الوقف عليه بالألف ، لأنها النون الخفيفة ، وهي شبيهة نون الإعراب في الأسماء ، في قول القائل : رأيت رجلاً عندك ، فإذا وقف على الرجل قيل : رأيت رجلاً ، فصارت النون ألفا ، فكذلك ذلك في : { وليكونا } ، ومثله قوله : { لَنَسْفَعا بالنّاصِيَةِ ناصِيَةٍ } ، الوقف عليه بالألف لما ذكرت ، ومنه قول الأعشى :
وَصَلّ على حِينِ العَشِيّاتِ وَالضّحَى *** وَلا تعْبُدِ الشّيْطانَ وَاللّهَ فاعْبُدَا
الفاء في { فذلكن } فاء الفصيحة ، أي إن كان هذا كما زعمتُنّ ملكاً فهو الذي بلَغكن خبره فلمتنني فيه .
و { لمتنني فيه } ( في ) للتعليل ، مثل " دخلت امرأةٌ النار في هرة " . وهنالك مضاف محذوف ، والتقدير : في شأنه أو في محبته .
والإشارة ب ( ذلكن ) لتمييز يوسف عليه السّلام ، إذ كُنّ لم يرينَه قبلُ . والتعبير عنه بالموصولية لعدم علم النسوة بشيء من معرّفاته غير تلك الصلة ، وقد باحت لهن بأنها راودته لأنها رأت منهن الافتتان به فعلمت أنهن قد عذرنها . والظاهر أنهن كن خلائل لها فلم تكتم عنهن أمرها .
واستعصم : مبالغة في عصم نفسه ، فالسين والتاء للمبالغة ، مثل : استمسك واستجمع الرأي واستجاب . فالمعنى : أنه امتنع امتناع معصوم ، أي جَاعلاً المراودة خطيئة عصم نفسه منها .
ولم تزل مصممة على مراودته تصريحاً بفرط حبها إياه ، واستشماخاً بعظمتها ، وأن لا يعصي أمرها ، فأكدت حصول سجنه بنوني التوكيد ، وقد قالت ذلك بمسمع منه إرهاباً له .
وحذف عائد صلة { ما آمره } وهو ضمير مجرور بالباء على نزع الخافض مثل : أمرتك الخير . . .
والسجن بفتح السين : قياس مصدر سجَنه ، بمعنى الحبس في مكان محيط لا يخرج منه . ولم أره في كلامهم بفتح السين إلا في قراءة يعقوب هذه الآية . والسجن بكسر السين : اسم للبيت الذي يسجن فيه ، كأنهم سموه بصيغة المفعول كالذبح وأرادوا المسجون فيه . وقد تقدم قولها آنفاً : { إلا أن يُسجن أو عذابٌ أليم } [ سورة يوسف : 25 ] .
والصاغر : الذليل . وتركيب { من الصاغرين } أقوى في معنى الوصف بالصّغار من أن يقال : وليكونن صاغراً ، كما تقدم عند قوله تعالى : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة البقرة ( 67 ) ، وقوله : { وكونوا مع الصادقين } في آخر سورة براءة ( 119 ) .
وإعداد المُتّكأ لهن ، وبَوحُها بسرّها لهن يدل على أنهن كن من خلائلها .