تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا} (17)

يقول تعالى منذرًا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد أهلك أممًا من المكذبين للرسل من بعد نوح ، ودل هذا على{[17370]} أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام ، كما قاله{[17371]} ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة{[17372]} قرون كلهم على الإسلام .

ومعناه : أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم ، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق ، فعقوبتكم أولى وأحرى .

وقوله [ تعالى ]{[17373]} { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي : هو عالم بجميع أعمالهم ، خيرها وشرها ، لا يخفى عليه منها خافية [ سبحانه وتعالى ]{[17374]} .


[17370]:في ت: "ودل على هذا".
[17371]:في ت: "كما قال".
[17372]:في ت، ف: "عشر".
[17373]:زيادة من ت.
[17374]:زيادة من ف، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا} (17)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىَ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } .

وهذا وعيد من الله تعالى ذكره مكذّبي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش ، وتهديدهم لهم بالعقاب ، وإعلام منه لهم ، أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه مقيمون من تكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام أنه محلّ بهم سخطه ، ومنزل بهم من عقابه ما أنزل بمن قبلهم من الأمم الذين سلكوا في الكفر بالله ، وتكذيب رسله سبيلهم . يقول الله تعالى ذكره : وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به ، وتكذيب رسله ، على مثل الذي أنتم عليه ، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم ، لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جلّ ثناؤه ، فيعذّب قوما بما لا يعذّب به آخرين ، أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين يقول جلّ ثناؤه : فأنيبوا إلى طاعة الله ربكم ، فقد بعثنا إليكم رسولاً ينبهكم على حججنا عليكم ، ويوقظكم من غفلتكم ، ولم نكن لنعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولاً منبها لهم على حجج الله ، وأنتم على فسوقكم مقيمون ، وكفى بربك يا محمد بذنوب عباده خبيرا يقول : وحسبك يا محمد بالله خابرا بذنوبن خلقه عالما ، فإنه لا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك هؤلاء ، ولا أفعال غيرهم من خلقه ، هو بجميع ذلك عالم خابر بصير ، يقول : يبصر ذلك كله فلا يغيب عنه منه شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . وقد اختلف في مبلغ مدّة القرن :

فحدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي محمد بن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : القرن : عشرون ومئة سنة ، فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل قرن كان ، وآخرهم يزيد بن معاوية .

وقال آخرون : بل هو مئة سنة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا حسان بن محمد بن عبد الرحمن الحمصي أبو الصلت الطائي ، قال : حدثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن القاسم ، عن عبد الله بن بسر المازني ، قال : وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على رأسه وقال : «سَيَعِيشُ هذَا الغُلام قَرْنا » قلت : كم القرن ؟ قال : «مِئَةُ سَنَةٍ » .

حدثنا حسان بن محمد ، قال : حدثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن القاسم ، قال : ما زلنا نعدّ له حتى تمّت مئة سنة ثم مات ، قال أبو الصلت : أخبرني سلامة أن محمد بن القاسم هذا كان ختن عبد الله بن بسر . وقال آخرون في ذلك بما :

حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال : أخبرنا عمر بن شاكر ، عن ابن سيرين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَرْنُ أرْبَعُونَ سَنَةً » .

وقوله : وكَفَى بِرَبّكَ أدخلت الباء في قوله : بِرَبّكَ وهو في محلّ رفع ، لأن معنى الكلام : وكفاك ربك ، وحسبك ربك بذنوب عباده خبيرا ، دلالة على المدح وكذلك تفعل العرب في كلّ كلام كان بمعنى المدح أو الذمّ ، تدخل في الاسم الباء والاسم المدخلة عليه الباء في موضع رفع لتدلّ بدخولها على المدح أو الذمّ كقولهم : أكرم به رجلاً ، وناهيك به رجلاً ، وجاد بثوبك ثوبا ، وطاب بطعامكم طعاما ، وما أشبه ذلك من الكلام ، ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت ، لأنها في محلّ رفع ، كما قال الشاعر :

ويُخْبِرنُي عَنْ غائبِ المَرْءِ هَدْيُه *** ُكَفَى الهَدْىُ عَمّا غَيّبَ المَرْءُ مُخْبرا

فأما إذا لم يكن في الكلام مدح أو ذمّ فلا يدخلون في الاسم الباء لا يجوز أن يقال : قام بأخيك ، وأنت تريد : قام أخوك ، إلا أن تريد : قام رجل آخر به ، وذلك معنى غير المعنى الأوّل .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا} (17)

ضرب مثال لإهلاك القرى الذي وصف سببه وكيفيته في الآية السابقة ، فعقب ذلك بتمثيله لأنه أشد في الكشف وأدخل في التحذير المقصود . وفي ذلك تحقيق لكون حلول العذاب بالقرى مقدماً بإرسال الرسول إلى أهل القرية ، ثم بتوجيه الأوامر إلى المترفين ثم فسقهم عنها وكان زعماء الكفرة من قوم نوح مترفين وهم الذين قالوا : { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي } [ هود : 27 ] وقال لهم نوح عليه السلام { ولا أقول للذين تزدري أعيُنكم لن يؤتيهم الله خيراً } [ هود : 31 ] .

فكان مقتضى الظاهر عطف هذه الجملة بالفاء لأنها كالفرع على الجملة قبلها ولكنها عطفت بالواو إظهاراً لاستقلالها بوقع التحذير من جهة أخرى فكان ذلك تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر لهذا الاعتبار المناسب .

و ( كم ) في الأصل استفهام عن العدد ، وتستعمل خبرية دالة على عدد كثير مُبهم النوع ، فلذلك تحتاج إلى تمييز لنوع العدد ، وهي هنا خبرية في محل نصب بالفعل الواقع بعدها لأنها التزم تقديمها على الفعل نظراً لكون أصلها الاستفهام وله صدر الكلام . و { من القرون } تمييز للإبهام الذي اقتضته ( كم ) .

والقرون جمع قرن ، وهو في الأصل المدة الطويلة من الزمن فقد يقدر بمائة سنة وبأربعين سنة ، ويطلق على الناس الذين يكونون في تلك المدة كما هنا . وفي الحديث « خير القرون قرني ثم الذين يلونهم » ، أراد أهل قرني ، أي أهل القرن الذي أنا فيه . وقال الله تعالى : { وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا } [ الفرقان : 38 ] .

وتخصيص { من بعد نوح } إيجاز ، كأنه قيل من قوم نوح فمن بعدهم ، وقد جعل زمن نوح مبدأ لقصص الأمم لأنه أول رسول ، واعتبر القَصص من بعده لأن زمن نوح صار كالمنقطع بسبب تجديد عمران الأرض بعد الطوفان ، ولأن العذاب الذي حل بقومه عذاب مهول وهو الغرق الذي أحاط بالعالم .

ووجه ذكره تذكير المشركين به وأن عذاب الله لا حد له ، والتنبيه على أن الضلالة تحول دون الاعتبار بالعواقب ودون الاتعاظ بما يحل بمن سبق وناهيك بما حل بقوم نوح من العذاب المهول .

وجملة { وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً } إقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالخصوص ، لأن كل ما سبق من الوعيد والتهديد إنما مآله إلى حمل الناس على تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من القرآن بعد أن لجوا في الكفر وتفننوا في التكذيب ، فلا جرم خُتم ذلك بتطمين النبي بأن الله مطلع على ذنوب القوم . وهو تعريض بأنه مجازيهم بذنوبهم بما يناسب فظاعتها ، ولذلك جاء بفعل { كفى } وبوصفي { خبيراً بصيراً } المكنى بذكرهما عن عدم إفلات شيء من ذنوبهم المرئية والمعلومة من ضمائرهم أعني أعمالهم ونواياهم .

وقدم ما هو متعلق بالضمائر والنوايا لأن العقائد أصل الأعمال في الفساد والصلاح . وفي الحديث : « ألا وإن في الجسد مضعة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » .

وفي ذكر فعل ( كفى ) إيماء إلى أن النبي غير محتاج إلى من ينتصر له غير ربه فهو كافيه وحسبه ، قال : { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [ البقرة : 137 ] ؛ أو إلى أنه في غنية عن الهم في شأنهم كقوله لنوح : { فلا تسألنِ ما ليس لك به علم } [ هود : 46 ] فهذا إما تسلية له عن أذاهم وإما صرف له عن التوجع لهم .

وفي خطاب النبي بذلك تعريض بالوعيد لسامعيه من الكفار .