تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (161)

ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحالُ إلى مماته بأن { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا } أي : في اللعنة التابعة{[3019]} لهم إلى يوم القيامة{[3020]} ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } فيها ، أي : لا ينقص عَمَّا هم فيه { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : لا يغير{[3021]} عنهم ساعة واحدة ، ولا يفتَّر ، بل هو متواصل دائم ، فنعوذ بالله من ذلك .

وقال أبو العالية وقتادة : إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون .

فصل : لا خلاف في جواز لعن الكفار ، وقد كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وعمن بعده من الأئمة ، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره ؛ فأما الكافر المعين ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم له ، واستدل بعضهم بهذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وقالت طائفة أخرى : بل يجوز لعن الكافر المعين . واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف ، واستدل غيره بقوله ، عليه السلام ، في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده ، فقال رجل : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " {[3022]} قالوا : فعلَّة المنع من لعنه ؛ بأنه يحب الله ورسوله فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن ، والله أعلم .


[3019]:في جـ: "الباقية".
[3020]:في أ: "يوم الدين".
[3021]:في جـ، أ، و: "لا يفتر".
[3022]:رواه البخاري في صحيحه برقم (6780) من حديث عمر رضي الله عنه.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (161)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِن الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ }

يعني تعالى ذكره بقوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا إن الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به من اليهود والنصارى ، وسائر أهل الملل والمشركين من عبدة الأوثان ، وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ يعني وماتوا وهم على جحودهم ذلك وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم أولئك عليهم لعنة الله والملائكة ، يعني : فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم لعنة الله يقول : أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته ، والمَلاَئِكَة يعني ولعنهم الملائكة والناس أجمعون . ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم : عليهم لعنة الله ، وقد بينا معنى اللعنة فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .

فإن قال قائل : وكيف تكون على الذي يموت كافرا بمحمد صلى الله عليه وسلم من أصناف الأمم ، وأكثرهم ممن لا يؤمن به ويصدقه ؟ قيل : إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبت إليه .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عنى الله بقوله : وَالنّاسِ أجْمَعِينَ أهل الإيمان به وبرسوله خاصة دون سائر البشر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَالنّاسِ أجْمَعِينَ يعني بالناس أجمعين : المؤمنين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَالنّاسِ أجْمَعِينَ يعني بالناس أجمعين : المؤمنين .

وقال آخرون : بل ذلك يوم القيامة يوقف على رؤوس الأشهاد الكافر فيلعنه الناس كلهم . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : أن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون .

وقال آخرون : بل ذلك قول القائل كائنا من كان : لعن الله الظالم ، فيلحق ذلك كل كافر لأنه من الظلمة . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أجْمَعِينَ ، فإنه لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما : لعن الله الظالم إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر لأنه ظالم ، فكل أحد من الخلق يلعنه .

وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا قول من قال : عنى الله بذلك جميع الناس بمعنى لعنهم إياهم بقولهم : لعن الله الظالم أو الظالمين ، فإن كل أحد من بني آدم لا يمنع من قيل ذلك كائنا من كان ، ومن أيّ أهل ملة كان ، فيدخل بذلك في لعنته كل كافر كائنا من كان . وذلك بمعنى ما قاله أبو العالية ، لأن الله تعالى ذكره أخبر عمن شهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم ، فقال : فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَىَ اللّهِ كَذِبا أُولَئِكَ يُعْرضُونَ عَلَىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاَء الّذِينَ كَذَبُوا عَلَىَ رَبّهِمْ ألاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَىَ الظّالِمِينَ .

وأما ما قاله قتادة من أنه عنى به بعض الناس ، فقول ظاهر التنزيل بخلافه ، ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر . فإن كان ظنّ أن المعنيّ به المؤمنون من أجل أن الكفار لا يلعنون أنفسهم ولا أولياءهم ، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم يلعنونهم في الاَخرة ، ومعلوم منهم أنهم يلعنون الظلمة ، وداخل في الظلمة كل كافر بظلمه نفسه ، وجحوده نعمة ربه ، ومخالفته أمره .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (161)

استئناف كلام لإفادة حال فريق آخر مشارك للذي قبله في استحقاق لعنة الله واللاعنين وهي لعنة أخرى .

وهذا الفريق هم المشركون فإن الكفر يطلق كثيراً في القرآن مراداً به الشرك قال تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] ، وذلك أن المشركين قد قُرنوا سابقاً مع أهل الكتاب قال تعالى : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] الآية { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ البقرة : 118 ] فلما استؤنف الكلام ببيان لعنة أهل الكتاب الذين يكتمون عُقّب ذلك ببيان عقوبة المشركين أيضاً فالقول في الاستئناف هنا كالقول في الاستئناف في قوله : { إن الذين يكتمون } [ البقرة : 159 ] من كونه بيانياً أو مجرداً .

وقال الفخر { الذين كفروا } عام وهو شامل للذين يكتمون وغيرهم والجملة تذييل أي لما فيها من تعميم الحكم بعد إِناطته ببعض الأفراد ، وجعل في « الكشاف » المراد من { الذين كفروا } خصوص الذين يكتمون وماتوا على ذلك وأنه ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً ، وهو بعيد عن معنى الآية لأن إعادة وكفروا لا نكتة لها للاستغناء بأن يقال والذين ماتوا وهم كفار ، على أنه مستغنى عن ذلك أيضاً بأنه مفاد الجملة السابقة مع استثنائها ، واللعنة لا يظهر أثرها إلاّ بعد الموت فلا معنى لجعلهما لعنتين ، ولأن تعقيبه بقوله : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] يؤذن بأن المراد هنا المشركون لتظهر مناسبة الانتقال .

وإنما قال هنا { والناس أجمعين } لأن المشركين يلعنهم أهل الكتاب وسائر المتدينين الموحدين للخالق بخلاف الذين يكتمون ما أنزل من البينات فإنما يلعنهم الله والصالحون من أهل دينهم كما تقدم وتلعنهم الملائكة ، وعموم ( الناس ) عرفي أي الذين هم من أهل التوحيد .