البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (161)

{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله } : لما ذكر حال من كتم العلم وحال من تاب ، ذكر حال من مات مصراً على الكفر ، وبالغ في اللعنة ، بأن جعلها مستعلية عليه ، وقد تجللته وغشيته ، فهو تحتها ، وهي عامة في كل من كان كذلك .

وقال أبو مسلم : هي مختصة بالذين يكتمون ما أنزل الله في الآية قبل ، وذلك أنه ذكر حال الكاتمين ، ثم ذكر حال التائبين ، ثم ذكر حال من مات من غير توبة منهم .

ولأنه لما ذكر أن الكاتمين ملعونون في الدنيا حال الحياة ، ذكر أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات .

والجملة من قوله : { وهم كفار } ، جملة حالية ، وواو الحال في مثل هذه الجملة إثباتها أفصح من حذفها ، خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً ، وهو الفراء ، وتبعه الزمخشري ، وبيان ذلك في علم النحو .

والجملة من قوله : { عليهم لعنة الله } خبر إن ، ولعنة الله مبتدأ ، خبره عليهم .

والجملة من قوله : { عليهم لعنة الله } خبر عن أولئك .

والأحسن أن يكون لعنة فاعلاً بالمجرور قبله ، لأنه قد اعتمد بكونه خبراً لذي خبر ، فيرفع ما بعده على الفاعلية ، فتكون قد أخبرت عن أولئك بمفرد ، بخلاف الإعراب الأول ، فإنك أخبرت عنه بجمل .

وقرأ الجمهور : { والملائكة والناس أجمعين } ، بالجر عطفاً على اسم الله .

وقرأ الحسن : والملائكة والناس أجمعون ، بالرفع .

وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله ، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر ، وقدروه : أن لعنهم الله ، أو : أن يلعنهم الله .

وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع ، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير ، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل ، وأنه ينحل لأن والفعل .

والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل ، لأنه لا يراد به العلاج .

وكان المعنى : أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار ، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص ، لا على سبيل الحدوث .

ونظير ذلك : { ألا لعنة الله على الظالمين } ، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين ، وقولهم له ذكاء الحكماء .

ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل ، بل صار ذلك على معنى قولهم : له وجه وجه القمر ، وله شجاعة شجاعة الأسد ، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف ، لا على معنى أن يشجع الأسد .

ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر ، أعني لعنة الله بأن والفعل ، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع ، لأنه لا طالب له .

ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر ؟ فقد تغير المصدر بتنوينه ، ولذلك حمل سيبويه قولهم : هذا ضارب زيد غداً وعمراً ، على إضمار فعل : أي ويضرب عمراً ، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع .

ألا ترى أنك لو نصبت زيداً لقلت : هذا ضارب زيداً وتنون ؟ وهذا أيضاً على تسليم مجيء الفاعل مرفوعاً بعد المصدر المنون ، فهي مسألة خلاف .

البصريون يجيزون ذلك فيقولون : عجبت من ضرب زيد عمراً .

والفراء يقول : لا يجوز ذلك ، بل إذا نون المصدر لم يجىء بعده فاعل مرفوع .

والصحيح مذهب الفراء ، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم من السماع ، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل .

فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر ، لأنا نقول : لا نسلم أنه مصدر ينحل لأن والفعل ، فيكون عاملاً .

سلمنا ، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعاً .

سلمنا ، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه .

وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه .

أولاها : أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف ، التقدير : وتلعنهم الملائكة ، كما خرج سيبويه في : هذا ضارب زيد وعمراً : أنه على إضمار فعل : ويضرب عمراً .

الثاني : أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف ، أي لعنة الله ولعنة الملائكة ، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو : { واسئل القرية } الثالث : أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى ، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم .

وظاهر قوله : والناس أجمعين العموم ، فقيل ذلك يكون في القيامة ، إذ يلعن بعضهم بعضاً ، ويلعنهم الله والملائكة والمؤمنون ، فصار عاماً ، وبه قال أبو العالية .

وقيل : أراد بالناس من يعتد بلعنته ، وهم المؤمنون خاصة ، وبه قال ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، ومقاتل .

وقيل : الكافرون يلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون ، فيقولون : في الدنيا لعن الله الكافر ، فيتأتى العموم بهذا الاعتبار ، بدأ تعالى بنفسه ، وناهيك بذلك طرداً وإبعاداً .

{ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } ؟ من لعنه الله ، فلعنة الله هي التي تجر لعنة الملائكة والناس .

ألا ترى إلى قول بعض الصحابة : وما لي لا ألعن من لعنه الله على لسان رسوله ؟ وكما روي عن أحمد ، أن ابنه سأله : هل يلعن ؟ وذكر شخصاً معيناً .

فقال لابنه : يا بني ، هل رأيتني ألعن شيئاً قط ؟ ثم قال : وما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه ؟ قال فقلت : يا أبت ، وأين لعنة الله ؟ قال : قال تعالى : { ألا لعنة الله على الظالمين } ثم ثنى بالملائكة ، لما في النفوس من عظم شأنهم وعلو منزلتهم وطهارتهم .

ثم ثلث بالناس ، لأنهم من جنسهم ، فهو شاق عليهم ، لأن مفاجأة المماثل من يدعي المماثلة بالمكروه أشق ، بخلاف صدور ذلك من الأعلى .

/خ167