اعلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَة يَعْمُّ كُلَّ كافِرٍ ماتَ على كُفْره .
وقال أَبُو مُسْلِم{[2081]} : يجبُ حَمْلُه على الَّذِينَ تقدَّم ذكْرُهُمْ ، وهُمُ الذينَ يكْتُمُون الآياتِ ، واحتجَّ بأنَّهُ تعالى لَمَّا ذَكَر حالَ الَّذِين يكْتُمُون ، ثُمَّ ذكَرَ حالَ التَّائِبِين منْهم ، ذكَرَ أيْضاً حَالَ مَن يَمُوتُ منْهم منْ غَيْر تَوْبَةٍ ، وأيضاً : فإِنه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ أولئكَ الكاتِمِينَ مَلْعُونُونَ حالَ الحياةِ ، بيَّن أَنَّهم ملْعُونُون بَعْد المَوْت . وجوابُهُ : إِنَّمَا يصحُّ هذا ، لو كان الَّذين يمُوتُون منْهُمْ مِنْ غير تَوْبة دخلُوا تَحْت الآيَةِ ، وإلاَّ لاسْتَغْنَى عن ذكْرِهم فوجَبَ حَمْلُ الكلامِ على أمْرٍ مستأْنفٍ .
فإنْ قيل : كيْفَ يلْعَنُهُ النَّاس أَجْمَعُونَ ، وأهْلُ [ دينِهِ لا يلْعَنُونَه ]{[2082]} .
أحدها : أَنَّ أهل دينه يلْعَنُونه فِي الآخرة ؛ لقوله تعالى : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] قال أبو العَالِيَةِ : " يُوقَفُ الكافِرُ يَوْمَ القيامةِ ، فيلْعَنُهُ اللَّهُ ، ثم تَلْعَنُهُ الملائكةُ ، ثم تلْعَنُهُ النَّاسُ " {[2083]} .
وثانيها : قال قَتَادَةُ ، والرَّبِيع : أَرَادَ بالنَّاس أجْمَعِين المؤمِنِينَ{[2084]} ؛ كأنه لَمْ يَعْتَدَّ بغَيْرهم ، وحَكَم بأنَّ المؤمنين هُمُ النَّاس لا غَيْرُ .
وثالثها : أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَلْعَنُ الجاهلَ ، والظَّالم ؛ لأنَّ قُبْحَ ذلك مُقَرَّرٌ في العُقُول{[2085]} فإذا كان في نَفسه [ هو جاهلاً ، أو ظالماً ، وإنْ كَانَ لا يعلَمُ هو مِن نَفْسه كوْنَهُ كَذَلِكَ ]{[2086]} كانَتْ لعنتُهُ على الجَاهِلِ والظَّالم تتناوَلُ نَفْسَهُ .
ورابعها : أَنَّ يُحْمَل وُقُوعُ اللَّعْنَة عَلَى اسْتحْقَاق اللَّعْنِ ، وحينئذ يَعُمُّ ذلك .
فَصل فِي بَيَانِ جَوِازٍ لَعْنِ مَنْ مَاتَ كَافِراً
قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيُّ{[2087]} - رَضِيَ اللَّه عنه - : الآيَةُ الكريمة تدلُّ على أنَّ للمسلِمِين لعن مَنْ مات كَافِراً ، وَأَنَّ زوالَ التكْليف عَنْه بالمَوْتِ لا يُسْقِطُ عَنْه اللَّعْنة ؟ لأنَّ قوله تعالى : " وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " أمرٌ لَنَا بلَعْنِهِ بَعْدَ مَوته ؛ وَهَذَا يدلُّ على أنَّ الكافر ، لَوْ جُنَّ ، لم يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْه مُسْقِطاً اللَّعْنةَ والبَرَاءة منْهُ ، وكذلك السَّبيلُ فيما يُوجِبُ المَدْحَ والموالاَةَ مِنَ الإِيمَان والصَّلاح ، فَمَوْتُ مَنْ كان كذلك أو [ جنونُهُ لا يغيِّر{[2088]} ] حكْمَهُ عَمَّا كان علَيْه قَبْلَ حُدُوث الحَالِ به .
قوله تعالى : " وَمَاتُوا " الواو هذه واو الحال ، والجُمْلَة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال ، وإثباتُ الواو هُنَا أفْصَحُ ؛ خلافاً للفَرَّاء ، والزَّمَخْشَريِّ ، حيثُ قالا : إنَّ حَذْفَها شاذٌ . وقوله { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ } : " أُولَئِكَ " : مبتدأٌ ، [ و { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ } : مبتدأ وخَبَرُه ، خَبَرٌ عَنْ " أُولَئِكَ " ]{[2089]} و " أُولَئِكَ " وخبَرُهُ : خَبَرٌ عَنْ " إنَّ " ، ويجُوزُ في " لَعْنَةُ " الرفْعُ بالفاعليَّة بالجَار قَبْلَها ؛ لاعتَمادهَا ؛ فَإِنَّهُ وقع خَبَراً عن " أولئك " وتقدَّم تحريرُهُ في { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ }
فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين
قال ابْنُ الْعَرَبيِّ : قَالَ لِي كثيرٌ مِنْ أشْيَاخِي : إنَّ الكافرَ المُعَيَّن لا يجوزُ لَعْنُهُ ؛ لأنَّ حاله عنْد المُوَافَاةِ لا تُعْلَمُ ، وقَدْ شَرَط اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة في إطْلاَقِ اللَّعْنَةِ : المُوافَاةَ عَلَى الكُفْر .
وأمَّا ما رُويَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم وعَلَى آلِهِ وسلَّم ، وشَرَّفَ وكَرَّمَ ، ومَجَّدَ ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أَنَّه لَعَنَ أَقْوَاماً بأعْيَانِهِمْ مِن الكُفَّار ، فَإِنما كان ذَلِكَ ؛ لِعِلْمِهِ بمآلِهِمْ{[2090]} .
قال ابْنُ العَرَبِيِّ : والصحيحُ عنْدِي : جوازُ لَعْنِهِ ؛ لظاهر حَالِهِ ، ولجواز قَتْله وقتَالِهِ .
وقد رُويَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم وعَلَى آلِهِ وسلَّم ، وشَرَّفَ وكَرَّمَ ، ومَجَّدَ ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أنه قال : " اللَّهُمَّ ، إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي ، وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بشَاعِرٍ ، فَالْعَنْهُ ، واهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي{[2091]} " [ فَلَعَنَهُ ، وإن كان الإيمانُ والدِّينُ والإسْلاَمُ مَآلَهُ ، وانتصف بقوله " عَدَدَ مَا هَجانِي {[2092]} " ] ولم يَزِدْ ؛ لتعليمِ العَدْلِ والإنصافِ ، وأضَافَ الهَجْوَ إلى اللَّه تعالَى في باب الجَزَاءِ ، دون الابتداءِ بالوَصْف بذلك ؛ كما يضاف إليه المكْرُ والاسْتهْزَاءُ والخَديعةُ ، تعالَى عَنْ ذلك .
قال القُرْطُبِيُّ{[2093]} : أما لَعْنُ الكُفَّار جُمْلَةُ مِنْ غَيْر تَعْيين ، فلا خِلاَفَ فيه ؛ لِمَا روَى مَالِكٌ ، عن داوُدَ بْنِ الحُصيْنِ ، أنَّه سَمِعَ الأَعْرَجَ يقُولُ : " مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ ، وَسَواءٌ كَانَتْ لَهْم ذِمَّةٌ أَوْ لَمْ تَكْنْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ ، وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ " .
قوله تعالى : " وَالمَلاَئِكَة " الجمهورُ على جرِّ الملائكة ؛ [ نَسَقاً عَلَى اسم اللَّه تعالى ]{[2094]} ، وقرأ الحَسَنُ{[2095]} بالرَّفْع ، { والمَلاَئِكَهُ وَالنَّاسُ أَجمَعُونَ } وخرَّجَها النحاةُ عَلَى العَطْف على مَوْضع اسْم اللَّه تعالَى ، فإنه وإِنْ كان مَجْرُوراً بإضافة المَصْدر ، فموضعُهُ رَفْعٌ بالفاعلية ؛ لأنَّ هذا المَصْدر يَنحَلُّ لحَرْفٍ مصدريٍّ ، وفِعْلٍ ، والتقديرُ : " أَنْ لَعَنَهُمْ " ، أوْ " أنْ يَلْعَنَهُمُ اللَّهُ " ، فعطف الملائِكَةَ على هذا التَّقْدير .
قال أبو حيان{[2096]} : وهذا لَيْسَ بجائزٍ على ما تقرَّر مِنَ العَطْفِ على الموضِع ، فإنَّ مِنْ شرْطِهِ : أن يكُونَ ثمَّ مُحْرِزٌ للموْضِعِ ، وطَالبٌ ، والطالبُ للرفع وجودُ التَّنْوِينِ في المَصْدَر ، هذا إِذَا سَلَّمْنَا أن " لَعْنَة " تنحلُّ لِحَرْفٍ مصدريٍّ ، وفعْلٍ ؛ لأنَّ الانحلال لذلك شرطُهُ أنْ يُقْصَدَ به العلاجُ ؛ ألا ترَى أنَّ قوله :{ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }
[ هود : 18 ] لَيْسَ المعنَى على تقْدير : أنْ يلْعَنَ اللَّهُ على الظالمين ، بل المرادُ اللَّعْنَةُ المستقرَّة ، وأضيفتْ للَّه على سَبِيلِ التَّخْصِيص ، لا على سَبِيلِ الحُدُوث . ونقلَ عن سِيبَوَيْهِ{[2097]} : أنَّ قولك : هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ غَداً وَعَمْراً ، بنَصْب " عَمْراً " : أنَّ نَصْبَه بفعْل محذوفٍ ، وأبى أَنْ ينصبَهُ بالعَطْف على المَوْضِع ، ثم بعد تَسْليمه ذلك كلَّه ، قال : المَصْدرُ المُنَوَّن لم يُسْمَعْ بعده فاعِلٌ مرفوعٌ ، ومفعولٌ منصوبٌ ، إِنَّمَا قاله البصريُّون قياساً على " أنْ والفِعْل " ومنَعَهُ الفَرَّاء ، وهو الصحيحُ ثم إِنَّه خَرَّجَ هذه القراءة الشَّاذَّة على أحَدِ ثلاثةِ أوجُهٍ :
الأول : أن تكونَ الملائكةُ مرفوعةً بفعلٍ محذُوفٍ ، أي : " وتَلَعَنُهُمُ المَلاَئِكَةُ " ؛ كما نصَبَ سِيبَوَيْهِ " عَمْراً " في قولِكَ " ضَارِبُ زَيْداً وَعَمْراً " بفعْلٍ محذوفٍ .
الثاني : أَنْ تكُونَ الملائكةُ عَطْفاً على " لَعْنَةُ " بتقدير حَذْف مضافٍ ، أي : " وَلَعْنَةُ المَلاَئِكَةِ " فَلَمَّا حذَفَ المضافَ ، أُقِيمَ المضافُ إلَيْه مُقَامَهُ .
الثالث : أنْ يكُونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرهُ تقْديرُهُ { وَالمَلاَئِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ تَلْعَنُهُمْ } وهذه أوجُهٌ متكلَّفةٌ ، وإِعْمَالُ المصدر المنوَّنِ ثابِتٌ ؛ غايُةُ ما في الباب : أنه قد يُحْذَفُ فاعلُهُ ؛ كقوله{ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 - 15 ] . وأيْضاً : فقد أَتْبَعَتِ العَرَبُ المجرورَ بالمَصْدر عَلَى موضعيهِ رَفْعاً ؛ قال : [ البسيط ] .
861 - . . . *** مَشْيَ الهَلُوكِ عَلَيْهَا الخَيْعَلُ الْفَضُلُ{[2098]}
برفع " الفُضُلُ " وهي صفة ل " الهَلُوكِ " على المَوْضِع ؛ وإذَا ثَبَتَ ذلكَ في النَّعْتِ ، ثَبَتَ فِي العَطْفِ ؛ لأنَّهما تابعانِ مِنَ التوابع الخمْسَةِ ، و " أَجْمَعِينَ " : من ألْفَاظِ التأْكِيد المعنويِّ بمنزلةِ كُلٍّ .
قال ابنُ الخَطِيبِ{[2099]} : والآيةُ تَدُلُّ على جواز التَّخْصْيصِ معَ التَّوْكِيد ؛ لأنَّه تعالى قال : " والنَّاسِ أَجْمَعِينَ " مع أنَّه مخصوصٌ على مَذْهَب مَنْ قال : المراد بالنَّاس بَعْضُهُمْ .