تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِي بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (183)

وقوله : { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } يقول تعالى تكذيبًا أيضًا لهؤلاء الذين زعموا{[6278]} أن الله عَهِدَ إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فقبلَتْ منه أن تنزل نار من السماء تأكلها . قاله ابن عباس والحسن وغيرهما . قال الله تعالى : { قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والبراهين { وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } أي : وبنار تأكل القرابين المتقبلة { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } أي : فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أنكم تَتّبعُونَ الحق وتنقادون للرسل .


[6278]:في جـ،أ: "يزعمون".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِي بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (183)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مّن قَبْلِي بِالْبَيّنَاتِ وَبِالّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ عَهِدَ إلَيْنا أنْ لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ . وقوله : { الّذِينَ قالوا إنّ اللّهَ } في موضع خفص ردّا على قوله : { الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ } ويعني بقوله : { قالُوا إنّ الله عَهِدَ إلَيْنَا أن لا نُؤْمِنَ لرَسُولٍ } أوصانا وتقدّم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه ، أن لا نؤمن لرسول . يقول : أن لا نصدّق رسولاً فيما يقول إنه جاء به من عند الله ، من أمر ونهي وغير ذلك { حَتّى يَأْتِينَا بُقْرَبانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ } يقول : حتى يجيئنا بقربان ، وهو ما تقرّب به العبد إلى ربه من صدقة ، وهو مصدر مثل العدوان والخسران من قولك : قرّبت قربانا . وإنما قال : «تأكله النار » ، لأن أكل النار ما قرّبه أحدهم لله في ذلك الزمان كان دليلاً على قبول الله منه ما قرّب له ، ودلالة على صدق المقرب فيما ادّعى أنه محقّ فيما نازع أو قال . كما :

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { حتى يأتينا بقُرْبانٍ تأْكُلُهُ النّارُ } كان الرجل يتصدّق ، فإذا تقبل منه أنزلت عليه نار من السماء فأكلته .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { بُقْربَانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ } كان الرجل إذا تصدق بصدقة ، فتقبلت منه بعث الله نارا من السماء ، فنزلت على القربان فأكلته .

فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { أن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِينَا بِقُرْبانِ تَأْكُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بالبَيّنَاتِ } يعني : بالحجج الدالة على صدق نبوتهم وحقيقة قولهم¹ { وَبالّذِي قُلْتُمْ } يعني : وبالذي ادّعيتم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه ، والإقرار بنبوّته من أكل النار قربانه إذا قرّب لله دلالة على صدقه¹ { فَلمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يقول له : قل لهم : قد جاءتكم الرسل الذي كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم ، فقتلتموهم ، فلم قتلتموهم وأنتم مقرّون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم إن كنتم صادقين في أن الله عهد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقربان تأكله النار حجة له على نبوته ؟

وإنما أعلم الله عباده بهذه الاَية ، أن الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لن يفرّوا ، وأن يكونوا في كذبهم على الله ، وافترائهم على ربهم ، وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يعلمونه صادقا محقا ، وجحودهم نبوّته ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في عهد الله تعالى إليهم أنه رسوله إلى خلقه ، مفروضة طاعته إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبياء الله بعد قطع الله عذرهم بالحجج التي أيديهم الله بها ، والأدلة التي أبان صدقهم بها ، افتراءً على الله ، واستخفافا بحقوقه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِي بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (183)

وقوله تعالى : { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } صفة راجعة إلى قوله : { الذين قالوا إن الله فقير } وقال الزجاج : { الذين } صفة للعبيد ، وهذ مفسد للمعنى والرصف ، وهذه المقالة قالتها أحبار يهود مدافعة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي إنك لا تأتي بنار فنحن قد عهد إلينا أن لا نؤمن لك ، و { عهد } معناه : أمر والعهد : أخص من الأمر ، وذلك أنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان ، وتعدى «آمن » في هذه الآية باللام والباء في ضمن ذلك ، «وقربان » مصدر سمي به الشيء الذي يقرب كالرهن ، وكان أمر القربان حكماً قديماً في الأنبياء ، ألا ترى أن ابني آدم قربا قرباناً ، وذلك أنهم كانوا إذا أرادوا معرفة قبول الله تعالى لصدقة إنسان أو عمله أو صدق قوله ، قرب قرباناً شاة أو بقرة ذبيحة أو بعض ذلك وجلعه في مكان للهواء وانتظر به ساعة ، فتنزل نار من السماء فتحرق ذلك الشيء ، فهذه علامة القبول ، وإذا لم تنزل النار فليس ذلك العمل بمقبول ، ثم كان هذا الحكم في أنبياء بني إسرائيل ، وكانت النار أيضاً تنزل لأموال الغنائم فتحرقها ، حتى أحلت الغنائم لمحمد صلى الله عليه وسلم حسب الحديث{[3754]} وروي عن عيسى بن عمر ، أنه كان يقرأ «بقرُبان » بضم الراء وذلك للإتباع لضمة القاف وليست بلغة ، لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين ، وقد حكى سبيويه : السلطان بضم اللام ، وقال : إن ذلك على الإتباع .

قوله تعالى :

{ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قُتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاؤا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزَّبُورِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }

هذا رد عليهم في مقالتهم وتبيين لإبطالهم ، أي : { قد جاءكم رسل } بالآيات الباهرة البينة ، وفي جملتها ما قلتم من أمر القربان فلم قتلتموهم يا بني إسرائيل المعنى بل هذا منكم تعلل وتعنت ، ولو أتيتكم بالقربان لتعللتم بغير ذلك ، والاقتراح لا غاية له ، ولا يجاب كل مقترح ، ولم يجب الله مقترحاً إلا وقد أراد تعذيبه وأن لا يمهله ، كقوم صالح وغيرهم ، وكذلك قيل لمحمد في اقتراح قريش فأبى ، وقال : بل أدعوهم وأعالجهم{[3755]} .


[3754]:- أخرجه الشيخان، والنسائي عن جابر. (الجامع الصغير 2/152).
[3755]:- أخرجه مسلم، والنسائي بلفظ (بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله)، الحديث. "حياة الصحابة" 1/404.