ثم بين ذلك فقال : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ }أي : أخلاط . والمشج والمشيج : الشيء الخَليط{[29583]} ، بعضه في بعض .
قال ابن عباس في قوله : { مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } يعني : ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا ، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور ، وحال إلى حال ، ولون إلى لون . وهكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، والربيع بن أنس : الأمشاج : هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة .
وقوله : { نَبْتَلِيهِ } أي : نختبره ، كقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } [ الملك : 2 ] . { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } أي : جعلنا له سمعا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية .
وقوله : إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيه يقول تعالى ذكره : إنا خلقنا ذرّية آدم من نطفة ، يعني : من ماء الرجل وماء المرأة ، والنطفة : كلّ ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة ، أو غير ذلك ، كما قال عبد الله بن رواحة :
*** هَلْ أنْتِ إلاّ نُطْفَةٌ في شَنّهْ ***
وقوله : أمْشاجٍ يعني : أخلاط ، واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين ومنه قول رؤبة بن العجاج :
يَطْرَحْنَ كُلّ مُعْجَلٍ نَشّاج *** لَمْ يُكْسَ جِلْدا في دَمٍ أمْشاجِ
يقال منه : مشجت هذا بهذا : إذا خلطته به ، وهو ممشوج به ومشيج : أي مخلوط به ، كمال قال أبو ذؤيب :
كأنّ الرّيشَ والفُوقَيْن مِنْه *** خِلالَ النّصْل سِيطَ بِهِ مَشِيجُ
واختلف أهل التأويل في معنى الأمشاج الذي عنى بها في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي قالا : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن الأصبهاني ، عن عكرِمة أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ قال : ماء الرجل وماء المرأة يمشج أحدهما بالاَخر .
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن الأصبهاني ، عن عكرِمة قال : ماء الرجل وماء المرأة يختلطان .
قال : ثنا أبو أُسامة ، قال : حدثنا زكريا ، عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : ماء المرأة وماء الرجل يمشجان .
قال : ثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن السديّ ، عمن حدّثه ، عن ابن عباس ، قال : ماء المرأة وماء الرجل يختلطان .
قال : ثنا عبد الله ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فهو أمشاج .
قال : ثنا أبو أُسامة ، قال : حدثنا المبارك ، عن الحسن ، قال : مُشج ماء المرأة مع ماء الرجل .
قال : ثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة ، وقد قال الله : يا أيّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأنْثَى .
قال : ثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، قال : خلق من تارات ماء الرجل وماء المرأة .
وقال آخرون : إنما عُني بذلك : إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليها ، يكون نطفة ، ثم يصير علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما ، ثم كسي لحما . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ الأمشاج : خلق من ألوان ، خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي النطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما ، ثم أنشأه خلقا آخر فهو ذلك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرِمة ، في هذه الاَية أمْشاجٍ قال : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما .
حدثنا الرفاعي ، قال : حدثنا وهب بن جرير ويعقوب الحضْرَميّ ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عكرِمة ، قال : نطفة ، ثم علقمة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ أطوار الخلق ، طورا نطفة ، وطورا علقة ، وطورا مضغة ، وطورا عظاما ، ثم كسى الله العظام لحما ، ثم أنشأه خلقا آخر ، أنبت له الشعر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله أمْشاجٍ نَبْتَليهِ قال : الأمشاج : اختلط الماء والدم ، ثم كان علقة ، ثم كان مضغة .
وقال آخرون : عُني بذلك اختلاف ألوان النطفة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ يقول : مختلفة الألوان .
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ألوان النطفة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أيّ الماءين سبق أشبه عليه أعمامه وأخواله .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ قال : ألوان النطفة نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة حمراء وخضراء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : بل هي العروق التي تكون في النطفة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وأبو هشام ، قالا : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا المسعودي ، عن عبد الله بن المخارق عن أبيه ، عن عبد الله ، قال : أمشاجها : عروقها .
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا أُسامة بن زيد ، عن أبيه ، قال : هي العروق التي تكون في النطفة .
وأشبه هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى ذلك مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نطفة الرجل ونطفة المرأة ، لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج ، وهي إذا انتقلت فصارت علقة ، فقد استحالت عن معنى النطفة فكيف تكون نطفة أمشاجا وهي علقة ؟ وأما الذين قالوا : إن نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، فإن المعروف من نطفة الرجل أنها سحراء على لون واحد ، وهي بيضاء تضرب إلى الحمرة ، وإذا كانت لونا واحدا لم تكن ألوانا مختلفة ، وأحسب أن الذين قالوا : هي العروق التي في النطفة قصدوا هذا المعنى . وقد :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : إنما خلق الإنسان من الشيء القليل من النطفة . ألا ترى أن الولد إذا أسكت ترى له مثل الرّيْر ؟ وإنما خُلق ابن آدم من مثل ذلك من النطفة أمشاج نبتليه .
وقوله : نَبْتَلِيهِ نختبره . وكان بعض أهل العربية يقول : المعنى : جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ، فهي مقدّمة معناها التأخير ، إنما المعنى خلقناه وجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ، ولا وجه عندي لما قال يصحّ ، وذلك أن الابتلاء إنما هو بصحة الاَلات وسلامة العقل من الاَفات ، وإنْ عُدِمَ السمع والبصر . وأما إخباره إيانا أنه جعل لنا أسماعا وأبصارا في هذه الاَية ، فتذكير منه لنا بنعمه ، وتنبيه على موضع الشكر فأما الابتلاء فبالخلق مع صحة الفطرة ، وسلامة العقل من الاَفة ، كما قال : ومَا خَلَقْتُ الجِنّ والإنْسَ إلاّ لِيَعبُدون .
وقوله : فَجَعَلْناهُ سمِيعا بَصِيرا يقول تعالى ذكره : فجعلناه ذا سمع يسمع به ، وذا بصر يبصر به ، إنعاما من الله على عباده بذلك ، ورأفة منه لهم ، وحجة له عليهم .
وقوله تعالى : { إنا خلقنا الإنسان } هو هنا اسم الجنس بلا خلاف ، لأن آدم لم يخلق { من نطفة } ، و { أمشاج } معناه أخلاط وأحدها مَشَج بفتح الميم والشين قاله ابن السكيت وغيره ، وقيل : مشج مثل عدل وأعدال ، وقيل : مشيج مثل شريف وأشراف ، واختلف في المقصود من الخلط ، فقيل هو { أمشاج } ماء الرجل بماء المرأة ، وأسند الطبري حديثاً وهو أيضاً في بعض المصنفات «إن عظام ابن آدم وعصبة من ماء الرجل ، ولحمه وشحمه من ماء المرأة » وقيل هو اختلاط أمر الجنين بالنقلة من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى غير ذلك . فهو أمر مختلط ، وقيل هو اختلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء فيه ، و { نبتليه } معناه نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا هو حال من الضمير في { خلقنا } كأنه قال : مختبرين له بذلك ، وقوله تعالى : { فجعلناه } عطف جملة تعم على جملة تعم ، وقال بعض النحويين إنما المعنى فنبتليه جعلناه { سميعاً بصيراً } ، ثم ترتب اللفظ موجزاً متداخلاً كأنه قال { نبتليه } فلذلك جعلناه ، والابتلاء على هذا أنما هو بالإسماع والإبصار لا بالإيجاب وليس { نبتليه } حالاً .