وقوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } هذه كقوله تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } [ البقرة : 255 ] وهكذا قال هاهنا : إنه يعلم الغيب والشهادة ، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه ؛ ولهذا قال :
{ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } وهذا يعم الرسول الملكي والبشري .
ثم قال : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } أي : يختصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ، ويساوقونه على ما معه من وحي الله ؛ ولهذا قال : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }
وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله : { لِيَعْلَمَ } إلى من يعود ؟ فقيل : إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي{[29395]} عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } قال : أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل ،
{ لِيَعْلَمَ } محمد صلى الله عليه وسلم { أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }
ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي{[29396]} به . وهكذا رواه الضحاك ، والسدي ، ويزيد بن أبي حبيب .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن قتادة : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ } قال : ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله ، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها . وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة . واختاره ابن جرير .
وقيل غير ذلك ، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشيطان ، حتى يتبين الذي أرسل به إليهم ، وذلك حين يقول ، ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
وكذا قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ } قال : ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم . وفي هذا نظر .
وقال البغوي : قرأ يعقوب : " ليُعلَم " بالضم ، أي : ليعلم الناس أن الرسل بُلّغوا .
ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل ، وهو قول حكاه ابن الجوزي في " زاد المسير " {[29397]} ويكون المعنى في ذلك : أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ، ويحفظ ما بُيِّن إليهم من الوحي ؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويكون ذلك كقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } [ البقرة : 143 ] وكقوله : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 11 ] إلى أمثال ذلك ، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة ؛ ولهذا قال بعد هذا : { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } .
وقوله : عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ يعني بعالم الغيب : عالم ما غاب عن أبصار خلقه ، فلم يروه فلا يظهر على غيبه أحدا ، فيعلمه أو يريه إياه إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يظهره على ما شاء من ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فأعلم الله سبحانه الرسل من الغيب الوحي وأظهرهم عليه بما أوحي إليهم من غيبه ، وما يحكم الله ، فإنه لا يعلم ذلك غيره .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : عالِم الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يصطفيهم ، ويطلعهم على ما يشاء من الغيب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يظهره من الغيب على ما شاء إذا ارتضاه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ قال : ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيب القرآن ، قال : وحدثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة .
وقوله : فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا يقول : فإنه يرسل من أمامه ومن خلفه حرسا وحفظة يحفظونه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن الضحاك إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه ، أن يتشبّه الشيطان على صورة الملك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن منصور ، عن إبراهيم مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : ملائكة يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الجنّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن طلحة ، يعني ابن مصرف ، عن إبراهيم ، في قوله : مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : الملائكة رصد من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من الجن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم ، وذلك حين يقول : ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : الملائكة .
إلا من ارتضى لعلم بعضه حتى يكون له معجزة من رسول بيان ل من واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير وسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء فإنه يسلك من بين يديه من بين يدي المرتضى ومن خلفه رصدا حرسا من الملائكة يحرسونه من اختطاف الشياطين وتخاليطهم .
فقوله : { ارتضى } مستثنى من عموم { أحداً } . والتقدير : إلاّ أحداً ارتضاه ، أي اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى .
والإِتيان بالموصول والصلة في قوله : { إلاّ مَن ارتضَى مِن رسول } لقصد ما تؤذن به الصلة من الإِيماء إلى تعليل الخبر ، أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى النّاس ، فيُعْلم من هذا الإِيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة ، وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو أن يفعلوه ، وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة ، أو أمور الدنيا ، وما يؤيد به الرسل عن الإِخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى : { غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } [ الروم : 24 ] .
والمراد بهذا الإِطلاعُ المحقق المفيد علماً كعلم المشاهدة . فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة ، ففي الحديث : « الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوءة ، أو بالإِلهام » قال النبي صلى الله عليه وسلم « قد كان يكون في الأمم قبلكم محدِّثون فإن يَكُنْ في أمتِي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم » رواه مسلم . قال مسلم : قال ابن وهب : تفسير محدثون : ملهِمون .
وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة : أنها تسرُّ ولا تغرُّ ، يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها .
و { مِن رسول } بيان لإِبهام { مَنْ } الموصولة ، فدل على أن مَا صْدَقَ { مَن } جماعةٌ من الرسل ، أي إلاّ الرسل الذين ارتضاهم ، أي اصطفاهم .
وشمل { رسول } كلّ مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل بإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السلام . وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم .
الأول ضمير { فإنه } وهو عائد إلى الله تعالى .
والثاني الضمير المستتِر في { يسلك } وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه ضمير { فإنه } .
والثالث والرابع ضميرَا { من بين يديه ومن خلفه } ، وهما عائدان إلى { رسول } أي فإن الله يسلك أي يرسل للرسول رصَداً من بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصداً ، أي ملائكة يحفظون الرسول صلى الله عليه وسلم من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبه .
والسّلْك حقيقته : الإِدخال كما في قوله تعالى : { كذلك نسْلكه في قلوب المجرمين } في سورة الحجر ( 12 ) .
وأطلق السَّلك على الإِيصال المباشر تشبيهاً له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفاً في قوله : { ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذاباً صعَدَاً } [ الجن : 17 ] أي يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يَبْلُغَ إليه ما أُوحي إليه من الغيب ، كأنّهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم . وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله : { إنا نحن نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] .
والمراد ب { مِن بين يديه ومن خلفه } الكناية عن جميع الجهات ، ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف .
والرصد : اسم جمع كما تقدم آنفاً في قوله : { يجد له شهاباً رصداً } [ الجن : 9 ] . وانتصب { رصداً } على أنه مفعول به لفعل { يسلك .