لما ذكر [ الله ]{[19102]} تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه ، أخبر بزيادة المهتدين هُدى كما قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124 ، 125 ] .
وقوله : { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } قد تقدم تفسيرها ، والكلام عليها ، وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة " الكهف " .
{ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا } أي : جزاء { وَخَيْرٌ مَرَدًّا } أي : عاقبة ومردا على صاحبها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا عمر بن راشد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فأخذ عودًا يابسًا فَحَطَّ ورقة ثم قال : " إن قول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان الله ، تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح{[19103]} ، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن ، هن الباقيات الصالحات ، وهن{[19104]} من كنوز الجنة " قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال : لأهللنّ الله ، ولأكبرن الله ، ولأسبحن الله ، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون{[19105]}
وهذا ظاهره{[19106]} أنه مرسل ، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة ، عن أبي الدرداء ، والله أعلم . وهكذا وقع في سنن ابن ماجه ، من حديث أبي معاوية ، عن عُمر{[19107]} بن راشد ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن أبي الدرداء ، فذكر نحوه{[19108]} .
القول في تأويل قوله تعالى { وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مّرَدّاً } .
يقول تعالى ذكره : ويزيد الله من سلك قصد المحجة ، واهتدى لسبيل الرشد ، فآمن بربه ، وصدّق بآياته ، فعمل بما أمره به ، وانتهى عما نهاه عنه هدى بما يتجدّد له من الإيمان بالفرائض التي يفرضها عليه . ويقرّ بلزوم فرضها إياه ، ويعمل بها ، فذلك زيادة من الله في اهتدائه بآياته هدى على هداه ، وذلك نظير قوله : وإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمانا فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك : ويزيد الله الذين اهتدوا هُدىً بناسخ القرآن ومنسوخه ، فيؤمن بالناسخ ، كما آمن من قبل بالمنسوخ ، فذلك زيادة هدىً من الله له على هُداه من قبل وَالباقِياتُ الصّالحات خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابا يقول تعالى ذكره : والأعمال التي أمر الله بها عباده ورضيها منهم . الباقيات لهم غير الفانيات الصالحات ، خير عند ربك جزاء لأهلها وَخَيْرٌ مَرَدّا عليهم من مقامات هؤلاء المشركين بالله ، وأنديتهم التي يفتخرون بها على أهل الإيمان في الدنيا .
وقد بيّنا معنى الباقيات الصالحات ، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك ، ودللنا على الصواب من القول فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمر بن راشد ، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : جلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فأخذ عودا يابسا ، فحطّ ورقه ثم قال : «إنّ قَوْلَ لا إلهَ إلاّ اللّهُ ، وَاللّهُ أكْبَرُ ، والحَمْدُ لِلّهِ وَسُبْحانَ اللّهِ ، تَحطّ الخَطايا ، كمَا تَحُطّ وَرَقَ هَذِهِ الشّجَرَةِ الرّيحُ ، خُذْهُنّ يا أبا الدّرْدَاءِ قَبْلَ أنْ يُحالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنّ ، هُنّ الباقِياتُ الصّالِحاتُ ، وَهُنّ مِنْ كُنُوزِ الجَنّةِ » ، قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال : لأهللنّ الله ، ولأكبرنّ الله ، ولأسبحنّ الله ، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون .
{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } عطف على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله ، أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأن الله عز وجل أراد به ما هو خير له وعوضه منه ، وقيل عطف على فليمدد لأنه في معنى الخبر كأنه قيل من كان في الضلالة يزيد الله الله في ضلاله ويزيد المقابل له هداية { والباقيات الصالحات } الطاعات التي تبقى عائدتها أبد الآباد ، ويدخل فيها ما قيل من الصلوات الخمس وقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . { خير عند ربك ثوابا } عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها سيما ومآلها النعيم المقيم ومآل هذه الحسرة والعذاب الدائم كما أشار إليه بقوله : { وخير مردا } والخير ها هنا إما لمجرد الزيادة أو على طريقة قولهم الصيف أحر من الشتاء ، أي أبلغ في حره منه في برده .
ولما ذكر ضلالة الكفرة وارتباكهم في الافتخار بنعم الدنيا وعماهم عن الطريق المستقيم عقب ذلك بذكر نعمته على المؤمنين في أنهم يزيدهم { هدى } في الارتباط إلى الأعمال الصالحة والمعرفة بالدلائل الواضحة وزيادة العلم دأباً .
قال الطبري عن بعضهم المعنى بناسخ القرآن ومنسوخه ع : وهذا مثال .
وقوله { والباقيات الصالحات } إشارة الى ذلك الهدى الذي يزيدهم الله تعالى أي وهذه النعم على هؤلاء { خير } عند الله { ثواباً } وخير مرجعاً . والقول في زيادة الهدى سهل بين الوجوه{[8027]} ، وأما { الباقيات الصالحات } فقال بعض العلماء هو كل عمل صالح يرفع الله به درجة عامله ، وقال الحسن هي «الفرائض » ، وقال ابن عباس هي «الصلوات الخمس » وروي عن النبي عليه السلام «أنها الكلمات المشهورات سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر » وقد قال رسول الله عليه السلام لأبي الدرداء «خذهن يا أبا الدرداء ، قبل أن يحال بينك وبينهن فهن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة »{[8028]} وروي عنه عليه السلام أنه قال يوماً «خذوا جنتكم ، قالوا يا رسول الله أمن عدو حضر قال : من النار ، قالوا ما هي يا رسول الله ، قال : سبحان الله ، ولا إله الا الله ، والله أكبر ، وهن الباقيات الصالحات »{[8029]} وكان أبو الدرداء يقول إذا ذكر هذا الحديث : لأهللن ، ولأكبرن الله ، ولأسبحنه حتى إذا رآني الجاهل ظنني مجنوناً .
جملة { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } معطوفة على جملة { من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدّاً } لما تضمنه ذلك من الإمهال المفضي إلى الاستمرار في الضلال ، والاستمرار : الزيادة . فالمعنى على الاحتباك ، أي فليمدد له الرحمان مداً فيزدَدْ ضلالاً ، ويمدّ للذين اهتدوا فيزدادوا هدىً .
وجملة { والباقيات الصالحات خير } عطف على جملة { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } . وهو ارتقاء من بشارتهم بالنجاة إلى بشارتهم برفع الدرجات ، أي الباقيات الصالحات خير من السلامة من العذاب التي اقتضاها قوله تعالى : { فسيعلمون من هو شرّ مكاناً وأضعفُ جنداً } ، أي فسيظهر أن ما كان فيه الكفرة من النعمة والعزّة هو أقلّ مما كان عليه المسلمون من الشظف والضعف باعتبار المآلين ، إذ كان مآل الكفرة العذاب ومَآل المؤمنين السلامة من العذاب وبعدُ فللمؤمنين الثواب .
والباقيات الصالحات : صفتان لمحذوف معلوم من المقام ، أي الأعمال الباقي نعيمها وخيرها ، والصالحات لأصحابها هي خير عند الله من نعمة النجاة من العذاب . وقد تقدّم وجه تقديم الباقيات على الصالحات عند الكلام على نظيره في أثناء سورة الكهف .