تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا} (73)

يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى{[19084]} عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان : أنهم يصدون عن ذلك ، ويعرضون ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم : { خَيْرٌ مَقَامًا وأَحْسَنُ نَدِيًّا } [ أي : أحسن منازل وأرفع دورًا وأحسن نديا ]{[19085]} ، وهو مجمع الرجال للحديث ، أي : ناديهم أعمر وأكثر واردًا وطارقًا ، يعنون : فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل ، وأولئك [ الذين هم ]{[19086]} مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من{[19087]} الدور على الحق ؟ كما قال تعالى مخبرًا عنهم : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . وقال قوم نوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] ؛

73


[19084]:في ف: "يتلى".
[19085]:زيادة من ف، أ.
[19086]:زيادة من ف، أ.
[19087]:في ت: "في".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا} (73)

القول في تأويل قوله تعالى { وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } .

يقول تعالى ذكره : وإذا تتلى على الناس آياتنا التي أنزلناها على رسولنا محمد بينات ، يعني واضحات لمن تأمّلها وفكّر فيها أنها أدلة على ما جعلها الله أدلة عليه لعباده ، قال الذين كفروا بالله وبكتابه وآياته ، وهم قريش ، للذين آمنوا فصدّقوا به ، وهم أصحاب محمد أيّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاما يَعْني بالمَقام : موضع إقامتهم ، وهي مساكنهم ومنازلهم وأحْسَنُ نَدِيّا وهو المجلس ، يقال منه : ندوت القوم أندوهم نَدْوا : إذا جمعتهم في مجلس ، ويقال : هو في نديّ قومه وفي ناديهم : بمعنى واحد . ومن النديّ قول حاتم :

ودُعِيتُ فِي أُولى النّدِيّ ولَمْ *** يُنْظَرْ إليّ بأعْيُنٍ خُزْرِ

وتأويل الكلام : وإذا تُتلى عليهم آياتنا بيّنات ، قال الذين كفروا للذين آمنوا : أيّ الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا ، وأنعم بالاً ، وأفضل مسكنا ، وأحسن مجلسا ، وأجمع عددا وغاشية في المجلس ، نحن أم أنتم ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قوله : خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا قال : المقام : المنزل ، والنديّ : المجلس .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس بمثله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيّناتٍ قالَ الّذِينَ كَفَرُوا للّذِينَ آمَنُوا أيّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاما وَأَحْسَنُ نَدِيّا ؟ قال : المقام : المسكن ، والنديّ : المجلس والنّعمة والبهجة التي كانوا فيها ، وهو كما قال الله لقوم فرعون ، حين أهلكهم وقصّ شأنهم في القرآن فقال : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتِ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ فالمقام : المسكن والنعيم ، والنديّ : المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه ، وقال الله فيما قصّ على رسوله في أمر لوط إذ قال وَتأتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكُرَ ، والعرب تسمي المجلس : النادي .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وأحْسَن نَدِيّا يقول : مجلسا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : أيّ الفَرِيقَيْنِ قال : قريش تقولها لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأحْسَنُ نَدِيّا قال : مجالسهم ، يقولونه أيضا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهمْ آياتُنا بَيّناتٍ قالَ الّذِينَ كَفَرُوا للّذِينَ آمَنُوا أيّ الفَرِيقَينِ خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة ، وفيهم قَشافة ، فَعَرّض أهل الشرك بما تسمعون قوله وأحْسَنُ نَدِيّا يقول : مجلسا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : أيّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا قال : النديّ : المجلس ، وقرأ قول الله تعالى : فَلْيَدْعُ نادِيَهْ قال : مجلسه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا} (73)

{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } مرتلات الألفاظ مبينات المعاني بنفسها أو ببيان الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو واضحات الإعجاز . { قال الذين كفروا للذين آمنوا } لأجلهم أو معهم . { أي الفريقين } المؤمنين والكافرين . { خير مقاما } موضع قيام أو مكانا . وقرأ ابن كثير بالضم أي موضع إقامة ومنزل . { وأحسن نديا } مجلسا ومجتمعا والمعنى أنهم لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها والدخل عليها ، أخذوا في الافتخار بما لهم حظوظ الدنيا والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم عند الله تعالى ، لقصور نظرهم على الحال وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا} (73)

قرأ الأعرج وابن محيصن وأبو حيوة «يتلى » بالياء ، من تحت ، وسبب هذه الآية أن كفار قريش لما كان الرجل منهم يكلم المؤمن في معنى الدين فيقرأ عليه القرآن ويبهره بآيات النبي عليه السلام ، كان الكافر منهم يقول إن الله إنما يحسن لأحب الخلق إليه وإنما ينعم على أهل الحق ونحن قد أنعم الله علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء ونحن أحسن مجلساً وأجمل شارة فهذا المعنى ونحوه هو المقصود بالتوقيف في قوله { أي الفريقين } ، وقرأ نافع وابن عامر «مَقاماً » بفتح الميم { ولا مَقام لكم }{[8020]} [ الأحزاب : 13 ] بالفتح أيضاً ، وهو المصدر من قام أو الظرف منه أي موضع القيام ، وهذا يقتضي لفظ المقام إلا أن المعني في هذه الآية يحرز أنه واقع على الظرف فقط ، وقرأ أبيّ { في مُقام أمين } [ الدخان : 51 ] بضم الميم ، وقرأ ابن كثير «مُقاماً » بضم الميم وهو ظرف من أقام وكذلك أيضاً يجيء المصدر منه مثل { مجراها ومرساها }{[8021]} [ هود : 41 ] وقرأ { في مَقام أمين } [ الدخان : 51 ] { ولا مَقام لكم } [ الأحزاب : 13 ] بالفتح ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم جميعهن بالفتح ، وروى حفص عن عاصم «لا مُقام لكم » بالضم . و «الندي » والنادي المجلس فيه الجماعة ومن قول حاتم الطائي :

فدعيت في أولى الندي . . . ولم ينظر إليَّ بأعين خزر{[8022]}


[8020]:من قوله تعالى في الآية (13) من سورة (الأحزاب): {وإذ قالت طائفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم}.
[8021]:من قوله تعالى في الآية (51) من سورة (الدخان): {إن المتقين في مقام أمين}.
[8022]:البيت من أبيات قالها حاتم يمدح بني بدر، وهو في الديوان، وفي اللسان (خزر)، والندي: المجلس ما دام القوم مجتمعين فيه، والجمع: الأندية. والخزر: جمع خزراء، وهو ضيق العين، وقيل: هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها. والبيت هنا شاهد على أن الندي هو المجلس فيه الجماعة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا} (73)

عطف على قوله { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } [ مريم : 66 ] وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم .

والتّلاوة : القراءة . وقد تقدمت عند قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على مُلك سليمان } في البقرة ( 102 ) ، وقوله : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } في أول الأنفال ( 2 ) . كان النبي يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير ، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة ، فكان المشركون يكذّبون بذلك ويقولون : لو كان للمؤمنين خير لعُجل لهم ، فنحن في نعمة وأهل سيادة ، وأتباع محمّد من عامة الناس ، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا ، ولو كنا عند الله كما يقول محمد لمنّ على المؤمنين برفاهية العيش فإنّهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتّبعناه ، قال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } [ الأنعام : 52 ، 53 ] ، وقال تعالى : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [ الأحقاف : 11 ] . فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلّقاً بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم . فالمراد بالآيات البيّنات : آيات القرآن ، ومعنى كونها بيّنات : أنّها واضحات الحجّة عليهم ومفعمة بالأدلّة المقنعة .

واللاّم في قوله { للّذين آمنوا } يجوز كونها للتّعليل ، أي قالوا لأجل الذين آمنوا ، أي من أجل شأنهم ، فيكون هذا قول المشركين فيما بينهم . ويجوز كونها متعلقة بفعل { قَالَ } لتعديته إلى متعلّقه ، فيكون قولهم خطاباً منهم للمؤمنين .

والاستفهام في قولهم { أيُّ الفريقين } تقريريّ .

وقرأ من عدا ابن كثير { مَقاماً } بفتح الميم على أنه اسم مكان مِن قام ، أطلق مجازاً على الحظ والرفعة ، كما في قوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربّه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ، فهو مأخوذ من القيام المستعمل مجازاً في الظهور والمقدرة .

وقرأه ابن كثير بضم الميم من أقام بالمكان ، وهو مستعمل في الكون في الدنيا . والمعنى : خيرٌ حياةً .